(فايز) هو ذاك الرجل الأربعيني صاحب الشعر الأبيض الكثيف والوجه المشرق المستدير يعيش في شقته المليئة بالصور المعلقة و الرسومات وعبق الألوان الزيتية المتناثر على البلاط ..
يجلس عند النافذة المفتوحة يرتشف قهوته ويستمتع بصوت المذياع الذي يصدح بأروع المعزوفات الموسيقية ثم يحدق في رسمته التي قارب موعد إنتهائها ويأخذ نفساً عميقاً ليقف منتصباً إِزاء لوحته ويمسك الفرشاة ويكمل ما تبقَ من إبداع ..
وبعد أسبوع أعلن الجاهزية ليشارك برسمته خارج البلاد بعد أن أتت إليه الدعوة ..
كانت الأحلام تعتريه في كل ليلة حتى أشرق صباح اليوم الذي سيسافر به ، فاستيقظ من فراشة باكراً وتوجه نحو الدولاب مسرعاً ثم بدأ باختيار أفضل ما يمكن له اِنتقائهُ للسفر فجهز حقيبته وبعد ساعة اِنطلق نحو المطار ..
اِرتقى في الطائرة المكتظة بالركاب من مختلف الأجناس فبعضهم يرتدي الكِمامة التي تغطي فمه وأنفه أما الأخرون غير مهتمين بما يحذر به قائد الطائرة وهو يقول : الرجاء من السادة الكرام وضع الكِمامات ولبس القفازات تجنباً من اِنتشار فايروس كرونا نتمنى لكم رحلة سعيدة..
تشاهد المضيفة بعض اللامبالين فتقترب منهم وتنصحهم بأخذ التعليمات التي تصدر من القائد كلها ساعات حتى هبطت الطائرة وتأهب (فايز) للنزول من على متنها وطفق يمشي في ردهة المطار حتى وصل إلى مكتب سيارات الأُجرة فأستقل السيارة وتوجهت به نحو الفندق الذي في وسط المدينة ..
مر يومين وأسدل الستار عن المعرض الضخم وأصبح (فايز) مسروراً بالثناء الذي يسمعه عن لوحته عبر متابعيه ..
فقد كان يناقشهم بكل ارتياح حتى ضجت وسائل التواصل الاجتماعي والصحف اليومية وهناك ثمة تحذيرات من السلطات بمنع التجوال بعد أيام و إِنهاء كل المحافل والمؤتمرات بشأن الوباء المنتشر..
اعتذر (فايز) عن عدم مواصلة الحضور إلى المعرض بسبب السعال المتزايد والزكام الشديد الذي أصابة ..
وكلها أيام ورجع إلى أرض الوطن وهناك تعليمات للقادمين من الخارج بأن عليهم الالتزام بالحجر الصحي وعدم الاختلاط لتجنب نقل العدوى ..
لم يستطيع فايز الذهاب لشقته قبل أن يذهب لزيارة أمه
فهو مشتاق إليها ولأفراد عائلته ويريد أن يسلمهم هدايا السفر وهي عادة لا يتركها كل ما قدم من أي رحلة …
وصل بيت أمه العجوز المشتعل شعرها شيباً أسنانها لم يبقَ منها سوى القليل و جسمها نحيف جراء مرض السكر المديم الذي يصاحبها..
تقرب من رأسها و قبلها , ثم أحتضن أخوته الواحد تلو الاخر و أستأذنهم لكي يرجع شقته فهو منهك من السفر ..
وبعد أيام تدهورت صحته و أزدادت إِستياء، فقرر بأن يذهب إلى المستشفى..
وشرح لهم ما عنده من أعراض فدنت منه الممرضة و أخذت بعض العينات وبعد إنتهائها أمرته بأن لا يخرج من الحجر حتى موعد النتيجه..
عاد لشقته لم يهنأ بالنوم أبداً، كانت الهواجس والأفكار تراوده وبعد ٤ ايام أتت له رسالة نصيه تعلن له بأنه مصاب وحالته إِيجابيه بفيروس كوفيد ١٩ وعليه متابعة المكث في الحجر الصحي..
انصدم عندما قرأ النتيجة المؤسفه وأول شيء فكر به أمه لم يكن خائفا من المرض فحسب بل كان نادماً بأنه نقله إلى أهله ..
أخذ يضرب رأسه نادماً ويجهش من البكاء ألماً حتى اغرورقت عيناه دموعاً حين سمع خبر وفاة أمه الذي كان كالصاعقة على قلبه، وبينما كان هو على تلك الحال وإذ به يسمع نداءً يوقظه لصلاة الفجر فشكر الله عندما تأكد بأن الذي مر عليه مجرد أضغاث احلام ..
محمد الزعابي