بِلَاجُ، يا وادي الجَمَالِ الداني
أَهْوَاكَ في طَرَبِي وفي ألحاني
مع المطر اهتز قلبي وعاد بي للوراء ما يزيد على عشرين عامًا من الذكريات استخرجتها هبات المطرِ وزخاته التي كانت تنعشُ المناظر الحية والأشجار الزاهية البهية واكتسبَ وادي بِلاج الأسمر بالأشجار والحجارة بريقًا بهيجًا من خُضْرَةٍ طريةٍ ، وعلى جانبي الوادي وجدتُ العشبَ يتفتحُ ويستنشقُ حباتِ المطرِ بفرحِ المشتاق إليه ، وفي صفحةِ السماء الصافيةِ النديةِ تَحْلُمُ الغيومُ بالهبوطِ أكثرَ نحو الأرض فتذكرتُ: "دَانٍ مِسَفٍّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُهُ يكادُ يمسكه مَنْ قام بِالرّاحِ" والحقول الواسعةُ كلُّها تتألقُ في سمرتِهَا كلَّ تألقٍ وتَنْفَرشُ باتجاهِ الهواءِ الرطيبِ مشتاقةً جدا للرعاة وأجدافِ أغنامهم ومواشيهم وكل كائنٍ حيٍّ .
إنَّها صورةٌ من صورِ الطبيعةِ الحية والبكرِ التي اكتملَ جمالُها البريءُ الذي يُعَانقُ الأضلاعَ بحرارةٍ ومحبةٍ وشوقٍ . لقد كانت الساعةُ الرابعةَ وعشرينَ دقيقةً عندما توقفتْ زخَاتُ المطرِ القويةُ على رُبُوعِ ضمدَ وما جاورها ؛ ولذلك فقد بدأتْ جولتي بعد أنْ حركتُ موتورَ سيارتي باتجاهِ وادي بِلاج الذي يقعُ شرق جنوب محافظة ضمد وتحديدًا شرق قرية الحَرَجة تلك الأماكن التي يعشقُها القلبُ والبصرُ عندما تكرمُها السماء بدَيْمَتِهَا الحنونةِ فتستحيلُ آيةً من آياتِ الجمالِ الإلهي ؛ فاستهواني المكانُ باستمرار المطرِ على شكلِ هَتَّانٍ جانبيٍّ مثير ، فلم أتوقفْ إلا في بقعةٍ تعلو الوادي وتبتعدُ عنه ببعض الكيلوات تُعْرَفُ هذه البقعة بِـ "حِلَّةُ الجربحِي وأحمد مطاعن" حيثُ البيوت الريفية التي اكتستْ بجمال الجو ورنين المطر ورقةِ الأشجار وحنانِ السماء .
إنَّهَا أماكنُ حُفِرَتْ طفولتي بها وريعانِ شبابي ؛ فكانتْ للصيدِ والرحلةِ والرعي وهي مَهْبِطُ الذكرياتِ الجميلةِ التي لاتفارق القلبَ والمُخَيِّلَةَ لذلك لم تكنْ رائحةُ طفولتي مفقودةً ولا يمكنُ أنْ تكونَ مفقودةً وخاصةً عندما تسكبُ السماءُ ابتسامتَهَا مطرًا على هذه الأرضِ الحالمةِ ، وعندما تصطبغُ الأرضُ بهذا الجمال الطبيعي الذي جعلَ خيالي مثقلًا بأحلامِ الفنان ، وجعلني أتجهُ إلى طريقِ العودةِ إلى بيتي بعد أنْ بدأَ الغروبُ يهبطُ بِرِقَّةٍ وخِفَّةٍ على المكان فرفعتُ يدي ملوحًا بالوداعِ لبعضِ مَنْ لاقوني بحرارةٍ ودفءٍ أنبتتْ المحبة والاحترام لِمَنْ يسكنون في هذه الطبيعةِ الخلابةِ وأحسستُ بِأَنَّ ثمةَ جمالًا في لحظاتِ الوداعِ هذه التي سأفارقُها بشوقٍ لهذا المكان الذي احتفى به المطرُ عِدَّةَ ساعاتٍ رأيتُ أن أتوجَ بها مقالي لهذا اليوم الأسطوري الفريد.
ودمتم سالمين.