الكاتبة : هناء الشمراني
لطالما تساءلت من أين تأتي السِمَة الإنسانية أو الاجتماعية؟ هناك الكثير من السمات الأخلاقية التي قد تلاحظها في المجتمعات، على مستوى الأفراد والشعوب، لكن التاريخ الأنثربولوجي للمجتمع الإنساني من شأنه أن يفسر بعض هذه الظواهر.
فعلى سبيل المثال لو تحدثنا عن صفة موجودة في كل المجتمعات وحاولنا تفسيرها تاريخيًا، فسنعود بالضرورة لتاريخ الإنسان القديم من أصلهِ؛ وسنجد أن البشر قبل الحضارة كانوا يعيشون في الأرض والبراري والأودية على شكل مجموعات، قبل ظهور اللغة المنطوقة، كان العالم آنذاك عبارة عن حلبة افتراس كبيرة بين جميع المخلوقات، فكان من سلوك كل مجموعة بشرية أن تأخذ لها مكانًا على انفراد كمأوى لهم، ويصطادون مؤونتهم ويعودون لمأواهم، وكانت الثقة متبادلة بين كل فرد بين المجموعة، على أساس تبادل المنفعة والدفاع عن بعضهم، وكان كل فرد يبقى مع جماعته لا ينفك عنها، لكي يظلّوا مجموعة واحدة فيُصعب تعرضهم للافتراس، لذلك كان في اعتبار كل مجموعة بشرية آنذاك أن أي مخلوق أو فرد بشري غريب عن مجموعتهم المعتادة فهو مَحط خطر، وشبهة، ومُفترِس مُحتمل.
ومن هذا السلوك الإنساني القديم، والظروف البدائية الهمجية التي عاش بها الإنسان قديما خُلقت صفة "العنصرية" عند الشعوب، فأي فرد يختلف شكليا أو لونيًا أو عرقيًا يصبح منبوذًا مكروهًا، فهنا تجد أن العنصرية هي سلوك تاريخي، لكن بعد نشوء الحضارة وولادة اللغة عند الإنسان والتحضر وإنشاء الدول لم تعد الحياة عبارة عن حلبة افتراس، لذلك أصبحت العنصرية الآن سلوك مذموم في نظر الإنسان العصري الحديث، ولا يوجد مبرر لها، على الرغم من كونها سابقًا أحد أدوات الإنسان الأساسية للبقاء وحماية النفس.
هذه صفة إنسانية عامّة، تنطبق على البشر بجميع مناطقهم بسبب التاريخ المشترك، لكن قد يوجد هناك سمات تختصّ بشعوب معينة دون الأخرى.
فعلى سبيل المثال لو أخترت بَلدَين، كلا هذين البلدين يحتويان على طبقات مجتمعية دُنيا، وتعاني من سوء المعيشة والإهانة والدونية ما تُعاني، لن تجد سلوك هاتين الطبقتين في البلدين المختلفين كبعضهما.
فمثلًا في البلد الأول قد تجد هذه الطبقة مُتصالحة مع كونها هكذا، إيمانًا منهم بأن هذا مستواهم الحقيقي في العيش.
لكن في البلد الآخر تجد هذه الطبقة مقهورة وثائرة وتحمل إيمانًا راسخًا في أنها لا تعامل بالمساواة، وأن هذا ليس المستوى المعيشي الذي تستحقه.
يقول دو غريه: "إن القهر والدونية لا تقودان لوحدهما إلى الاستياء فلا بُدّ أن تكونا مقرونتين بمشاعر قوية بالأهمية الشخصية والاعتداد بالنفس.
كما يبين ماكس شيلر أن النظام الطبقي المتأصل والإيمان بالجبرية في الهند لا يقودان إلى الاستياء بين الفئات الخاضعة لتلك الثقافة وهذا الأمر بالتحديد مردّهُ حقيقة أنه لا يوجد ادعاء بالمساواة بين الطبقات، وأن أفراد الطبقات الدنيا يعتبرون أن منزلتهم أمر طبيعي وصحيح".
وهناك نوع آخر من السمات يتفرّد بها كل فرد إنساني وحده دون البقية، وعلى غرار كل ما سبق نستطيع أن نستنتج أن سمات كل إنسان مستقل، هي تعبير عن رؤيته لنفسه في العالم، وكيف يعبر عن مكانته ويحافظ على وجوده، "الإحساس بالمكانه" هو نوع من أنواع حفظ الوجود، والإنسان أنثربولوجيًا كل سلوك من سلوكياته على مر التاريخ كان سببه الحفاظ على المكانه وعلى والوجود والبقاء، فمثلًا الشخص الذي لا ينفك عن إهانة وإذلال الآخرين فهو شخص يعتقد أنه لا يمكنه اكتساب مكانته الشخصية والإحساس بوجودها إلا عن طريق ذلك، والشخص الذي يحُب فرض السيطرة والتحكم فهو شخص لا يُشعر بوجوده ومكانته إلا في السيطرة، والشخص الذي يفرض رأيهُ بالغضب فهو أيضًا يعتقد أن الغضب هو ما يعبر عن مكانته، والعكس صحيح الشخص الذي يختار الحكمة فهو يعتقد أن الحكمة هي ما تعطيه مكانته، سمات كُل شخص هي تجلّي لأفكار عميقة في جوف عقل المرء، تراكمت من خلال تاريخه وحياته وطريقة تفكيره، قد لا يُدركها، ولكنها تنكشف في تصرفاته.
ولكن السؤال هنا هل يمكن أن يخلق الشخص لنفسه سمات جديدة؟ السمات قد تُخلق وتتشكل من جديد بعد تغير جذري في التفكير، وهناك من يقول أن الشخص إذا تخلَّق بصِفة واستمر عليها لثلاثة أشهر فيُسمى هذا السلوك خُلق، وأن استمر عليه لستة أشهر متواصلة، يصبح "سِمَة" من سماته لا تنفك عنه إلا بتغيّر جذري آخر.
يقول جلال الدين الرومي: (أفعالك مُرآة، لا تعكس سوى جوهرك).