لا ينفك الناس ما عاشوا من خصومة بحق أو بغير حق ولا يسلمون الدهر كله من مدعي ومدعى عليه.
بل كلما زاد الإنسان رفعة في دينه أو دنياه ازداد خصومه الظاهر والمستتر والمبطلون منهم أكثر من المحقين.
وكما قيل :
إذا بلغ الفتى ماء السماء بفضله
جاءت كأعداد النجوم عداه
لذلك كان نهيه صلى الله عليه وسلم عن الفجور في الخصومة لا في نفى أصلها فهو غير ممكن إلا ندرة والنادر لا حكم له.
بل جعل لها الشارع أحكاماً وقواعد تنهى بها.
وجعل فضلاً وأجراً لمن أصلح بين خصمين وعده من خير العمل وأعلاه شرفاً
والخصومة ليست مذمومة بالكلية بل منها المقبول أحياناً مع إن جلها مذموم والترفع عنها حال شريف لمن فعله ولو كان محقاً.
ومما يطلب للتعامل مع الخصوم لتجاهل الخصومة أو -في حالة محاولة إنهاء الخصومة بينهم- معرفة سبب الخصومة ونوعها للمساهمة في إغلاقهما وإصلاحها.
ومن خلال الاستقراء والتتبع لكثير من الخصومات المدونة في الخبر المؤرخ والمشاهدة في الواقع
تبين لي حسب -وجهة نظري- أن الخصومة والخصوم أصناف وأنواع خمسة :
وهي بالإجمال والاختصار كما يلي :
١- الخصومة في الدين : فهذه لا تنتهي ولا حتى بموت أحد الطرفين بل تبقى حتى مع أتباع الخصم وآثاره
نعم تنتهي في حالة رجوع أحد الخصمين مع خصمه فيما يريد ويبتغي.
وهي مع بقائها واستمرارها وطول وقتها إلا إنها ليست على وتيرة واحدة بل تخف وتهدا وتضرم وتخبو حسب الوقائع والأحداث والنوازل
وهذا الخصومة غالباً ما تقع بين أئمة الحق والباطل وأتباعهم.
وهي من الدين فلا إثم فيها ولا معرة قال تعالى : (( هذان خصمان اختصموا في ربهم...))
٢-خصومة الخلاف الوجهي والنزاع في مصلحة للبس فيها :
وهو خلاف سائغ لوجود المبررات كخصومات الشركاء وبعض الجيران في تداخل أملاك ونحوها وتصفية شراكة وتوابع ذلك.
وهذا هو الأصل في الخصومة بين المسلمين الذين يتقون الله في الناس ويحذرون ظلم غيرهم ولا يطالبونه إلا بحق لهم فيما يظنونه.
وغالباً ما ينتهي الخلاف بزوال اللبس أو وجود نور أومكتوب أو بحكم حاكم أوتقريب مصلح.
ولا يبقى لهذا آثار لأن كلا الطرفين يطلب حقاً حسب ما غلب على ظنه وبمجرد تبين الحق تخمد نار الخصومة وتعود أثراً بعد عين.
٣-خصومة الطامع
ينشأ نوع من الخصومة بسسب طمع في الحصول على شيء من النفع من المدعى عليه
وتكون أسباب الخصومة غير مبررة وغير منتظمة بل يغلب عليها التهافت والتناقض
وهذا الخصم غالباً ما يحرص على حصول شيء من خير رأه أو جاء على يده ولم يجد سبباً ولا سبيلاً لنيل لعاعة منه إلا بالمخاصمة وللضغط على المخاصم ليرضيه حتى يسلم من تعطيله وإشغاله له بالخصومة.
وهذا سرعان ما تنتهي خصومته إذا رضخ له شيئاً يسيراً لئلا يشغله وهي نار على من أخذها إن لم تكن بطيب نفس من المعطي.
وهذا النوع من الخصوم درجات فقد يكون قريباً أو جاراً فله حق الصبر والصلة ولو جار عليك
ومنهم من قد يكون مسكيناً وضعيفاً فله حق التجاوز والعفو
ومنهم متمرس ومتخذ ذلك عادة فله حق الزجر والتأديب.
٤-خصومة المبغض والمنتقم :
وهذه الخصومة تنشأ على خلفيات سابقة وخلافات وأخطاء وقعت بين الخصمين فلا يجد بعضهم طريقة للتشفي من خصمه والنيل منه إلا عن طريق الخصومة الفاجرة والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم : ((وإذا خاصم فجر))
فلا غرض للخصم من خصمه إلا الأذى والانتقام وإلحاق الضرر به وهي التي تحمل على قول الزور وشهادة الزور
ويؤذي بسببها أبرياء نتيجة لحن الحجج وترويج الكذب ومن يحكم بينها معذور فهو بشر لا يعلم الغيب
ولكنها قطعة من نار على من خاصم بفجور.
وهي من قهر الرجال الذي أمرنا بالتعوذ منه.
٥-خصومة الحاسد :
وهي أصبعها علاجا ولا أظن أن لها علاجا فالحسد يحمل على الخصومة بالباطل وعلى ما هو أبعد وأشنع من ذلك
ولا يخلو ذي نعمة أظهرها أو ظهرت عليه شهرة من حاسد إلا نادرا
بل من يسلم من الحساد والحسد غالباً إلا ضعيفا أو مسكيناً
ليس تأييدا للحسد واعتذاراً للحاسد أو تبريرا لسوء صنعه ولكن إقرارا بالحقيقة المرة واعترافا بالواقع الدنيوي المؤلم
كما قال الشاعر :
تلك الحقيقة والمريض القلب تجرحه الحقيقة..
وقد أنزل آيات تتلى في التعوذ من الحاسد إذا حسد.
قال معاوية ارضيت كل خصومي غير الحاسد فإنه لا يرضى إلا بزوال النعمة
ولذلك ورد إخفاء النعم عن من يبغض الشخص حتى في الرؤيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا يخبر بها إلا من يحب) - (ولا يقصها إلا على ذي ود)
وهذا النوع من الخصومة الناشئة عن الحسد والبغض بسبب النعم علاجها بالابتعاد عن مصدر الحسد والأعراض عنه والصبر على مر القول والفعل والتحصن من شره وشر كل حاسد..
هذا ما تيسر لي رقمه حسبما عن لي وظهر والله تعالى أعلم وأحكم..
وختاماً :
فأسأل الله العظيم الكريم أن يرفع عنا وعن المسلمين هذا الوباء وهذا المرض (كورونا) ، إنه سبحانه رحيم قدير.


