الساعة هي السابعة صباحا، يوم شتوي جديد، حيث تسافر موجات برد من حقل إلى مدينة و من صحراء إلى ساحل، امتد نظري عبر نافذتي إلى خارج الدار، صورة مختلطة يؤطرها ذاك الصفاء الجميل لصباح الشتاء حيث الرؤية لا يعكر صفاءها رطوبة مملة ولا يخدش نقاءها ذرات غبار مندسة.
تمتم لساني الحمد لله.. أحب أن أحمد الله حين يلامس عيني جمال يوقظ عبوديتي لمن أبدع الجمال، وهاك طائر غريب يبدو كلوحة فرت من إحدى متاحف الرسم الشهيرة واستقرت فوق سور النافذة، تأملت عيناي لوهلة، والإحساس بجمال الشكل والصورة يتعدى حدود الجلد إلى الداخل فيتغلغل حتى يمتزج بوجدان علميا لا أدرك موقعه أما معنويا، فأصوره آخر نقطة في نطاق البدن فتشيع الراحة والنشوة في روح وجسد ونفس وهو ما أسميه التلذذ بالجمال، وهو أمر لا يمتلكه الكثير، فالبعض اعتاده والبعض تبلد نحوه والبعض فقد الشعور به؛ يا لها من نعمة تستوجب الشكر، يا لفكري المتمرد استرسل في وصف التلذذ بالجمال وترك اللوحة الشتائية المترفة التي وصفت قبلا، تساءلت ما الذي منح هذه اللوحة جمالا ؟؟ أهو شكل الطائر ؟ شكل الأشجار؟ نقاء الجو ؟ ربما تضافرت الأسباب لكن أجمل ما جمل الصورة بعناصرها هو وجود الألوان.
نعم.. فاللون نعمة سكبها الباري على سوداوية الوجود و بياضه الباهت ليكتمل معنى الجمال على كوكب الأرض.
لو كان الشكل موطن الجمال ترى أكان سيأسرنا البحر بجماله لو كانت أمواجه سوداء !.
وهل كانت السماء ستسجن حدقاتنا في زرقتها لو غابت تلك الزرقة !
هل كانت العين ستبقى مهوى الأفئدة و متغنى الشعراء لو تساوت العيون في لون شفاف غير مرئي.
كيف كنا سننتقي الزهور لولا أن ألوانها تسيطر علينا بتنويم مغناطيسي فنختار منها مانحب.
هل كان سيظل فاكهة أو خضروات.. هل كان سيظل عاشق للون الوردي من البشرة و اللون الخمري منها.
أكانت المروج و البساتين والغابات ستبقى نزهة القلب الحزين ليفرح.
لو تحول العالم إلى أبيض وأسود.
أظل فرق بين عصفور وطاووس.. ليلك وزنبق..
شمس ذهبية وقمر لؤلؤي..
الألوان.. هي البعد الرابع للحياة في هذا العالم..
نحتاج للهواء لنبدأ الحياة وللماء لنعيش.. وللغذاء لنستمر أحياء..
وللألوان لتظل الحياة متعة وزينة، ومن عجائب قدرة الله أن اللون يمنح صفات تميز المخلوق عن غيره في أدق صفاته وخصائصه. فالفواكه والخضر ألوانها ليست صبغة اعتباطية بل إن اللون ذاته هو مايعطيها خصائص تميز كل صنف عن الآخر.
الأرض كرة ملونة زاهية؛ والأصل في الأشكال ليس الأبيض والأسود ثم سكبت الألوان بل الأصل في هذا الكون هو التلون والتنوع و العودة إلى وحدوية البياض والسواد إنما ينافي نمط الخليفة كما أرادها الله.
الألوان تشي بالمعنى المستتر وراء وجودها والذي يحدد بمصطلح واحد هو (التنوع) و يرادفه الاختلاف و التغيير.
ولعل هذا المبدأ لو تم إدراكه واستيعابه لما قامت الحروب ولا ثارت العصبيات، ولا ظهرت الضغائن جراء رغبة البعض في أن يكون من حوله مثله وإلا عاداهم، وظنه بأن الاختلاف هو انشقاق عن القاعدة.
بينما الحقيقة أن الاختلاف والتغاير والتنوع هو سنة الكون في كل شيء، في الشكل والمضمون والفكر والثقافة والأساسيات والكماليات.
هذا الوعي لايخلق طاغية يسرف في قتل شعبه إن لم يتفقوا عليه، و هذا الاستشراف لمعنى اللون وزخم الاختلاف لا ينتج إرهابيا ولا متنطعا ولا دمويا ولا يفرز عنفا أسريا ولا ينعكس في مرآة العنصرية البغيضة.
لو اختفى الإدراك لأهمية التنوع لما تطورت البشرية ونضجت عبر قرون ولبقي كل ذي جهل على جهله.
وهذا الدين يقرر احترام الاختلاف ويقر منطقية التنوع، حتى الهداية ليست لكل البشر ولو أرادها الله كذلك لجعلها لكن هذا يناقض سنة الكون التي قررها الله، وما خلق الناس باختلاف الأصول وجعلهم شعوبا وقبائل إلا دليل آخر على هذا الزخم والتنوع والاختلاف الذي قد يبدأ بالألوان وينتهى باختلاف العقيدة والدين.
إذن.. حين تختلف معي، تذكر الألوان؛ فلم نسمع عن لون قتل ذبحا كونه قد استأثر بالاهتمام دون لون آخر.
اختلف معي بهدوء وسلاسة ورقي؛ فلون الحياة الأحمر يسري في العروق وحوله أنسجة عضلات مختلفة في اللون وخارجها عظام بيضاء ويظللها سقف الجلد المتراوح بين الأشقر والأسود، ولم يحدث يوما حرب عنصرية بين ألوان الجسد الواحد.
وها هي الغابة تموج بألوان متناغمة ومتنافرة وما سفكت خضرة الشجر حمرة الورد قط.
يجب علينا بني الإنسان أن نتعلم من ذوي الألوان على هذا الكوكب أن الاختلاف تكامل لا تناحر.
وهج:
إن اختلفنا من بعيد أو قريب..
لاتلمني..
فالله خلق الكون بألف من صور
وإن بات للأب مسخ من ربيب..
لاتلمه..
فذاك نوح ابنه راح غرقا في نهر
فقط لمني إن بادرتني بكل طيب..
ورددت الطيب مرا في
جحود مستمر.
التعليقات 1
1 ping
يوسف آل مشحاك
11/04/2021 في 9:56 ص[3] رابط التعليق
الحقيقة أننا أمام مقال أكثر من رائع،
بل أجد كلمة رائع توصيف أقل مما يستحق _
الدكتورة فاطمة لم تكتفي بأن تكون شاعرة بارعة أو كاتبة وقاصة كبيرة بل أعطتنا بُعدا آخر لفكرها النير ماشاء الله تبارك الله.
من أجمل ما قرأت في حياتي .