الموت حقيقة لا مفرّ منها، لا يفرّق بين غني وفقير، ولا بين صغير وكبير، ولا بين عزيز وحقير، ولا بين عالم وجاهل!
تسير قافلة الحياة وكل يوم يسقط أحد من أهلها ونفجع بحبيب أوصديق، وكل فترة وآخرى ينطفئ قنديلاً من القناديل التي تضيء محاريب العلم وساحات الفكر، وأعني بالقناديل العلماء، فهم نور على طريق العلم وهُداة إليه!
ومن هذه القناديل التي خمدت، والشموع التي انطفأت، شيخنا الفقيه الدكتور ياسين بن ناصر الخطيب، نزيل مكة عراقي الأصل والمولد، انتقل إلى مكة في شبابه واستقرّ بها إلى موته.
كان رحمه الله من الفقهاء الصالحين الأخيار، مشتغل بالعلم والتعليم، بلا كلل ولا ملل إلى آخر حياته.
لقد أكرمني الله بمجاورة هذا العالم، فكان سكنه قريباً من سكني، وكنّا نصلي بعض الفروض في مسجد واحد، وشرفني الله أيضاً أن تتلمذت على يديه ودرّسني في الجامعة، ولي معه مواقف لا أنساها، بعضها أرجعتني خمسة عشر عاماً إلى الوراء، لعالم عايشته وأراه في اليوم عدة مرات إما في الجامعة أو في مسجد الحي أوفي الحرم.
ومن تلك المواقف التي أتذكرها وأنا طالب في مرحلة البكالوريوس، وكنت حينها لا أملك سيارة، فأركب التكسي في أغلب الأوقات سواء وأنا ذاهب إلى الجامعة أو إلى الحرم !
كنت أقف على الطريق، فإذا رأني توقف وأبتسم ويقول لي اركب تريد أن تذهب إلى الجامعة، وكان يقول يا ابني السيارة لا زكاة فيها شرعاً، ونزكيها نحن بأخذ طلاب العلم ومن وقف على الطريق، وكان يأخذني بعض الأحيان إلى الحرم وأنا أقف على الطريق انتظر الباص، وغالب فروضه التي كان يصليها في الحرم الفجر والمغرب والعشاء لا يتركها إلا في النادر!
كان رحمه الله حريصاً على الصدقة ومن المواقف التي أتذكرها وهي عادة له، كلما صلى وهو خارج من المسجد أدخل يده في جيبه وأخرج ما تيسر وأعطاها لمسكين جالس أو لسائل يسأل!
وأذا حضر إلى الجامعة ونزل من سيارته يمشي نحو القاعة لا يترك العمال الذين يقابلهم في طريقه كان يعطيهم ما تيسر، وكأنه برنامجاً يوميا للصدقة معهم!
ومن مواقفي مع الشيخ ياسين كنت طالباً في مرحلة الماجستير، وكان هو المرشد لخطة البحث، اتفقت معه على يوم من الأيام أن أُسلّم له الخطة، ذهبت إلى مكة في الموعد المحدد، اتصلت بالشيخ فردّ عليّ أحد أبنائه - وفقه الله- وللأسف لا أتذكر اسمه الآن مع أنه عرّف بنفسه، فذاكرتي في بعض المواطن تخذلني! قال لي الشيخ مريض ومنوم في مستشفى النور، قلت في نفسي ما دمت في مكة فرصة أن أزور الشيخ في المستشفى، ووصف لي إبنه الغرفة، وحينما وصلت طرقت الباب خرج لي إبنه ورحب بي وادخلني الغرفة، وإذا بالشيخ جالساً متربعاً على السرير والمغذيات في يده يتكلم بالهاتف، سلمتُ عليه وأشار بيده أنْ اجلس، جلست وأطال الكلام وهو يشرح كلاماً علمياً بحتاً، نظرت إلى إبنه وقال لي عنده محاضرة لطلاب الدراسات العليا وأَبى إلا أن يلقيها عليهم ولا يريد أن يتغيب عنهم، فطلب من أحد الطلاب أن يفتح مكبر الصوت ويشرح لهم الدرس!
قلت لإبن الشيخ أنا على سفر ولا أريد أن أقطع درس الشيخ استأذن بالذهاب وأشار إليّ الشيخ بيده اجلس اجلس،ثم قطع الدرس ونظر إليّ بإبتسامة لطيفة، تحمل فيها معاني الأبوة، كيف حالك يا أيمن؟! أين خطتك؟!
أخذ مني الخطة وتصفحها وقال لي خيرا إن شاء الله، وأكمل محاضرته مع طلابه، وكأنّ لسان حاله يقول لا شيء يوقفني عن التعليم!
رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأحسن فيه العزاء، هذه خواطر ومواقف كتبتها على عجالة لشيخ عايشته فترة من الزمن، وإلا فحياة الشيخ مليئة بالمواقف، وجهوده أكبر من ذلك بكثير، فالله اسأل أن يجعله في عليين، وينزله منازل والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات 3
3 pings
ابوخالد
27/07/2021 في 5:11 ص[3] رابط التعليق
جزاك الله خير
جميل جدا
مصطفي البيومي
27/07/2021 في 12:36 م[3] رابط التعليق
رحم الله الشيخ ونسأل الله أن يدخله الفردوس الأعلى من الجنة
وبارك فيكم يارب ونفع بعلمك
احمد الغامدي
25/05/2022 في 6:34 م[3] رابط التعليق
أطال الله في عمرك ونفع بعلمك
ورحم الله الشيخ واسكنه فسيح جناته