خالد شوكاني
الكل يعرف أن الأم هي أسمى كلمة في الوجود، حيث تنحسر الكلمات وتتساقط الحروف منا ولا نستطيع الوصف حين نذكر هذه الكلمة، وفضل الأم كبير وعظيم ولا يخفى هذا الفضل على أيّ إنسان، ففضلها يتناسب مع تضحيتها وعطائها، ويتناسب مع مدى إخلاصها وحبها، فالأم هي المدرسة والقيم، والصبر، والعطاء، حيث أن واجبنا ودورنا تجاه الأم كبير وعظيم.
ولهذا قررت عبر مقال اليوم أن أتركم مع مصطفى العقاد والذي أورد فيها هذه القصة وكذبات أمه الثمانية، مع أنها تدل على مدى التضحيات، ورسالة لكل بار وعاق أيضاً لأمه ليعرف البار المزيد من التضحيات ويزيد ويجتهد في بره، ورسالة أيضاً لكل عاق ليتوب إلى الله ويكف عن عقوقه، فتضحيات الأم لاتعد ولاتحصى.
يقول مصطفى العقاد أدركت أن أمي كذبت عليّ ثماني كذبات حيث كنت أظن أن الأم لا تكذب ولكني أدركت أن أمي كذبت عليّ ثماني كذبات وإليكم أكاذيب أمي لتعرفوا كيف تكذب الأم يقول كنت الإبن الوحيد في أسرة فقيرة فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا، وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله ويسد جوعنا، كانت أمي تعطيني نصيبها وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول ياولدي تناول هذا الأرز ، فأنا لست جائعة، وكانت هذه كذبتها الأولى.
وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل وتذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا ، وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قدتساعدني على أن أتغذى وأنمو، وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا ، وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك ، فاهتز قلبي لذلك، ثم وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها ، فأعادتها أمامي فورا وقالت يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا ألا تعرف أني لاأحب السمك وكانت هذه كذبتها الثانية.
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة، ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات الدراسة، ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات.
وفي ليلة شتاء ممطرة تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل، فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت، فناديتها أمي هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح فابتسمت أمي وقالت لي يا ولدي أنا لست مرهقة، وكانت هذه كذبتها الثالثة.
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة ، أصرت أمي على الذهاب معي ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة وعندما دق الجرس وانتهى الإمتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة ودفء وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى ووجدت معها كوبا فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي فشربته من شدة العطش حتى ارتويت بالرغم من أن احتضان أمي لي كان أكثر بردا وسلاما وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها اشربي يا أمي، فردت يا ولدي اشرب أنت أنا لست عطشانة وكانت هذه كذبتها الرابعة.
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة وأصبحت مسئولية البيت تقع عليها وحدها ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع، وكان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفق علينا فهي لازالت صغيرة ولكن أمي رفضت الزواج قائلة أنا لست بحاجة إلى الحب وكانت هذه كذبتها الخامسة.
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل، وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح ، فلما رفضت أن تترك العمل خصصت لها جزءا من راتبي فرفضت أن تأخذه قائلة يا ولدي احتفظ بمالك إن معي من المال ما يكفيني وكانت هذه كذبتها السادسة.
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجيستير وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا فشعرت بسعادة بالغة وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة ،وبعدما سافرت وهيأت الظروف، اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي ولكنها لم تحب أن تضايقني وقالت يا ولدي أنا لست معتادة على المعيشة المترفة، وكانت هذه كذبتها السابعة.
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة وأصابها مرض السرطان اللعين وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد ، تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة، ليست أمي التي أعرفها ، انهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني وقالت لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم وكانت هذه كذبتها الثامنة. وبعدما قالت لي ذلك أغلقت عينيها ، فلم تفتحهما بعدها أبدا.
وهنا نقول إلى كل من ينعم بوجود نعمة الأم في حياته حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها فالأم نعمة لايحس بها إلا فاقدها، وختاماً أسأل المولى العلي القدير أن يحفظ لي أمي ويمد في عمرها ويمتعها بالصحة والعافية كما نسأله التوفيق في برها، واسأله أن يحفظ جميع أمهات المسلمين والمسلمات كم أنتِ عظيمة أيتها الآم.
ودمتم سالمين.