عواطف سالم
نحن نعيش في وسط عالم مضطرب، كثير من الناس غمرت قلوبهم الأحزان، والعالم يتصدع تحت وطأة حروب ومآسي، ومجاعات وأوبئة، وفي وسط تلك الظروف كلها أقبل علينا شهر رمضان، فأحيا بقدومه قلوبا ماتت في ظلمتها، امتلأت الشوارع بالأنوار، والبيوت بالخيرات، والقلوب بالصفح والتسامح، والاستعداد لتقبل التعويض الإلهي الجميل.
ولأن لكل شيء نهاية فقد حانت نهاية شهرنا الكريم، وأظلتنا أيام أعياد، يستقبلها البعض متوجسين مما يذل أعناقهم من مطالب واحتياجات لا آخر لها، لكن كل هؤلاء لا يدركون أنه لمثل ذلك شُرّعت الأعياد، ولأجل إزالة هموم القلب، وتسكين آلام النفس، وشفاء ما بالروح من سقم، جعل الحكيم اللطيف لنا شرعة ومنهاجا.
أياما نبتهج فيها، نزيح همومنا وننسى مشاكلنا، نتذكر رحمة الله العظيمة التي تشملنا، وتهيمن على حياتنا، وتُهدى بها قلوبنا.
إن نفحات شهر رمضان التي لا تزال تظللنا، ونتنسم عبيرها في الشوارع والبيوت، وفي كل مكان تذهب بنا إليه أقدامنا، لا ينبغي أن تفلت من بين أيدينا بساعات قليلة من نهار العيد.
فالأعياد ليست مجرد مناسبة للفرح والاحتفال فقط، إنها جزء من فلسفة الإسلام الشاملة المتكاملة، تلك الفلسفة التي جعلت للمسلمين مواسم، ومناسبات للتذكير بكل ما مضى من تاريخهم العظيم، فشروق شمس يوم العيد يترافق مع انطلاق تكبيرات يخشع القلب عند سماع نداءاتها التي تمس الروح مسا قويا، وتبدل حالها إلي حال آخر: (الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده…).
هذه النداءات التي ارتبطت، ليس فقط ببزوغ أيام أعيادنا، بل بذكرى عظيمة عزيزة على قلب كل مسلم ومسلمة، وهي ذكرى انتصار المسلمين، بقيادة النبي صلي الله وسلم، وصحبه الكرام، على عشرة آلاف من قريش وأحزابها -فرسان ورجال- جاءوا في العام الخامس من الهجرة المباركة، لكي يقضوا على الإسلام، ويحطموا دعوته في مرحلة التكوين والميلاد، جاءوا مسلحين ليس بعددهم وعدتهم فقط، بل أيضا بميراث عريض وقديم من الشرك والوثنية، والظنون الباطلة، والأماني التي تملأ قلوبهم دون وجه حق، جاءوا لحصار يثرب العتيقة، البلدة الخاملة التي حمل الإسلام إليها نوره، وأضاء جنباتها، فتغيرت من يثرب المفسدة، التي تحمل اسما يشينها، إلي المدينة التي أنارت بنور النبي صلى الله عليه وسلم، وتجللت طرقها وبيوتها بإشراقة وجهه الجميل، وأضحت حصنا منيعا للإسلام، قريش وحلفاءها من اليهود وشوارد العرب، ممن لا يحسنون زرعا ولا حصادا، لكنهم جاءوا بحقدهم لاجتثاث النبتة اليانعة، التي غرسها النبي بيديه الشريفتين، لكن الله كان أعلى وأكبر من كل كيدهم وتدبيرهم، فغُلبوا على أمرهم، وفروا هاربين، تاركين ما جاءوا به غنيمة طيبة باردة للمسلمين وكان رحيلهم أنشودة لا زال المسلمون، في مشارق الأرض ومغاربها، يتغنون بها إلي اليوم.
في كل صبح يمنحنا الله من فضله وكرمه، عيدا تبتهج به نفوسنا، وتزول همومنا، علينا أن نتقبله بقبول حسن، أن نحمد الله الذي أبقانا لنشهد يوما آخر، من الأيام الطيبة التي وهبها لنا نحن المسلمون، وشملنا برضاه، وعفوه وعافيته.
في يوم العيد علينا أن نشكر الله على كل ما أعطانا، أو منعنا، ففي المنع كما في العطاء حكمة عظيمة، وأن نحمده على الصحة والمرض، على الفقد والوجود، على كل نعمه علينا.
لا تسدوا أبوابكم في وجه أعيادكم، بل أعلنوا الفرحة والابتهاج، أملئوا الساحات بالمصلين، والآفاق بالتكبيرات، شجعوا أولادكم على أن يرافقوكم لتلبية نداء الرحمن، ولا تحرموهم بهجة العيد وفرحته، فلعل هذا اليوم يكون بداية لمسيرة مليئة بتقوى الله وطاعته ومحبته في حياتهم، لا تعبسوا في وجوه غيركم، وأفرحوا مع الفرحين، استقبلوا رحمة الله المزجاة إليكم بالشكر والعرفان، ولا تمنعكم مصائب الدنيا، ولا محن الحياة، عن الإقرار بنعم الله الكثيرة، التي أنعم بها علينا.
قولوا الحمد لله في السراء والضراء وحين البأس، وأحيوا سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الابتهاج بالأعياد، وبإعلانكم الفرحة ستكونون شهودا لله، ولعل دعوة طيبة مخلصة، ترفعونها إلى خالقكم، وأنتم خاشعين بين يديه في يوم عيدكم ترفع عنكم وعن سائر المسلمين المحن، وتحول وحشتهم إلى أنس بالله، وظلمة ملامحهم الآسفة إلى نور وبشر وفرحة بما عند الله، وهو خير وأبقى من كل متاع الدنيا وكنوز الأرض، في يوم العيد نعلن الفرحة ونحمد الله، ونفتح أكفنا المتضرعة، لنتلقى فيضا من محبته وكرمه، وشلالا من رحمته وعفوه.