عواطف سالم
انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة مَنْ يُسَمَّون بالمؤثِّرين، وهم مجموعة من الأشخاص الذين يمارسون أنشطتهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة الأنترنت بشكل عام، ومن بين أنواع المؤثِّرين هؤلاء: (البلوجرز) و(اليوتيوبرز) و(الفاشينيستات) وأخيراً (التيك توكرز)، وجميعهم يمارسون ألواناً من النشاط عَبْر مواقع النشر والتدوين بعرض يومياتهم ومقاطع الفيديو الخاصة بهم عَبْر حساباتهم.
ولم يعد تأثير المحتوى الذي تقدِّمه هذه الفئات مقتصراً على التسلية، وتقديم مادة خفيفة ومفيدة للأطفال والمراهقين، بل أصبح لهم دور فاعل وأساسي في تشكيل وعي مجموعات كبيرة من الناس، خاصة من المُعرَّضين أكثر من غيرهم للتأثُّر بالأفكار الجديدة، والواردة، مثل: المراهقين، وفئة الناشئين.
فذلك التأثير الذي جعل لهم دوراً تعليميّاً وتثقيفيّاً يمارسونه عن بعد، لكنَّ الكارثة أنَّ الدور أنعكس، بحيث أصبح المؤثِّرون يمارسون دوراً تخريبيّاً لكل قيم المجتمع، ومُثُلُهُ السائدة التي تربَّتْ عليها أجيال الآباء والأجداد.
وإذا ابتعدنا قليلاً عمَّن تتركز رسائلهم عَبْر تلك الوسائل على نشر التفاهات، والترويج لسفاسف الأمور وصغائرها، فإنَّ حفنة من المشاهير تبثُّ عَبْر حساباتها رسائل مسمومة قد يصل بعضها إلى هدم القيم والانسلاخ عن الهويَّة الإسلاميَّة، ونشر أنماط من الأفكار والمذاهب الفكرية والاجتماعية تتعارض بشكل كامل مع ثقافتنا وعقيدتنا وقيمنا الإسلاميَّة.
ومن التأثيرات الأقل خطورة هي الترويج لسلع ومنتجات استهلاكية في المقام الأول قد تكون ضارة ومؤذية لمَنْ يُقْبِل على استعمالها، وقد تبلغ في بعض الأحيان درجة التسبب في إيذاء خَطِرٍ لمَنْ يستهلكها، فالدراسات التي أجريت في السنوات الأخيرة أظهرت مؤشرات مقلقة، وخطيرة جداً، فقد لوحظ أنَّ معظم الأنماط الاستهلاكية للناس خاصة فئات الأطفال والمراهقين تتأثر بشكل كبير جداً بما يتعرَّضون له من دعايات مركَّزة من قِبَلِ المؤثِّرين الذين يقومون بالترويج لهذه المنتجات بشكل مدفوع غير مبالين بما تسببه من مشاكل، أو حتى بانعدام قيمتها من الناحية الغذائية والصحية.
فالنمط الاستهلاكي الذي طغى على المجتمع في السنوات الأخيرة، أحد أسبابه الرئيسية هو تأثيرات هؤلاء، فتلك مشكلة خطيرة، لكنها ليست إلا درجة من درجات سلم الخطر الاجتماعي الذي تتزايد عوامل خطورته يوماً بعد يوم، فالنمط الاستهلاكي نفسه أوجد درجة كبيرة من عدم الرضا والتمرد على الامكانيات المتاحة، وعدم تقبُّل الأوضاع المعيشية التي يوفِّرها الأبوان والأسرة، وتَمَخَّضَ عن ذلك زيادة حالات السرقة، والخطف، وأيضاً حالات التنمُّر والتعدِّي اللفظي على الآخرين، والتقليل من شأنهم.
وتصاعداً في خطورة ظاهرة المؤثِّرين فقد تخصصت فئة منهم في بثِّ رسائل مسمومة، هدفها قيم وتقاليد وأخلاقيات المجتمع الإسلامي، والتقاليد العربية العريقة، ومن بين هذه الرسائل المسمومة تركيز محتواهم على المعايير الجمالية المبالغ فيها، ومثاليات البشرة والشعر، حتى لم تعد المعايير التقليدية المتوسطة مقبولة بأي حال من الأحوال.
فساد بين الشباب والمراهقين عدم الرضا عن مظهرهم الجسماني، ومسايرتهم العمياء لكل جديد في مجالات التجميل وصيحات الموضة، وانتشرت عمليات التجميل، والتدخلات الجراحية المبالغ فيها، وهي غير ضرورية في أحيان كثيرة، ومن السهل أن نلحظ أثر ذلك وتأثيره المدمِّر، ولا يكاد يمرُّ يوم دون أن نسمع عن ضحية جديدة من ضحايا مراكز التجميل المشبوهة، أو التدخلات الجراحية التي تضرُّ أكثر مما تنفع في أحيان كثيرة.
وأيضاً فقد تخصَّص بعض المشاهير في الترويج لأنماط من الملابس العارية والفاضحة، وتشجيع الفتيات الصغيرات على ممارسة الانحلال الأخلاقي، وتصوير أنفسهن بأشكال غير لائقة، ويتم كل ذلك في غياب الأبوين اللذين يلهثان خلف توفير مطالب العيش متناسين أنَّ لهم أولاداً في أعمار خطرة، وهنا تتضاعف مسؤولية الآباء والمعلمين والمرشدين النفسيين والاجتماعيين بشكل يجعل المسؤولية الملقاة على عواتقهم شاقة، وعسيرة التحمل فعلاً، مما يستدعي تغييراً شاملاً، وما يشبه الثورة الفكرية لدى الآباء والمربين.
فلم تعد طرق التربية والرقابة القديمة تنفع، ولا بدَّ من تَفَهُّم أولياء الأمر لدورهم الحقيقي، وتقدير صعوباته، وتعويد الأبناء على الحوار مع الآباء، وشرح وجهات نظرهم لهم، والآباء من جانبهم عليهم الاستماع إلى أولادهم، ومناقشتهم، وتَفَهُّم طبيعة المراحل العمرية التي يمرُّون بها، وتعويدهم على المكاشفة والمصارحة، وتعليمهم قواعد وأسس الدين القويم، وزيادة تمسُّكهم بالأصول والمبادئ، وتفعيل رقابة الأبناء الذاتية على أنفسهم؛ لحمايتهم من السقوط، خاصة في زمن زادت فيه مسؤوليات الأهل، وأصبح تواجدهم بصفة مستمرة مع أبنائهم أمر مستحيل تحقيقه عمليّاً.
ومن حسن الحظ أنَّ التكنولوجيا الحديثة ذات حدين، ففي المقابل وفرَّتْ خيارات عديدة من: وسائل الرقابة الأبوية، وبرامج الحماية الأسرية التي تتيح للوالدين مراقبة أنشطة أبنائهم، وتحديد المحتوى اللائق من غير اللائق، وإغلاق وحظر المواقع والتطبيقات ذات المحتوى غير الأخلاقي، إنَّ تطبيق ومتابعة مثل هذه الوسائل، إضافة إلى القيام بعملية متابعة أسرية وعائلية ومجتمعية للأطفال والمراهقين، متابعة يكون قوامها الحزم دون قسوة أو إفراط في استعمال العقاب، مع قدر كبير من التفهم وإدراك متغيرات العالم الصاخب من حولنا، فهذه الطريقة ستكون الأفضل؛ لحماية أبنائنا وعائلاتنا ومجتمعنا كله من تهديد وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، والمستمر لقيمنا وأخلاقياتنا ومُثُلُنا الدينيَّة السامية.