الكاتب : سالم الغانمي
امتن الله تعالى على بني آدم بالنطق والبيان (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) والخطبة جزء من هذا الكلام ونمط من أنماط البيان له مناطه وأساليبه الخاصة به وهو مؤثر في قناعات وتصرفات المستمع حسب ملكة المتكلم والخطيب.. وكيف لا يكون ذلك الأثر وقد ورد في صادق الأثر (إن من البيان لسحرا).
ومن قديم الزمان ومن سالف الدهر والحضارات وللخطبة والخطابة بالغ الأثر وكبير الدور في التوجيه للمقاصد التي يتبناها الخطيب وبقدر إحكامها يكون أثرها ويمتد تأثيرها.
وقد أعلى الإسلام شأن الخطبة وفن الخطابة فشرع الخطب في شعائر ومناسبات كثر منها ما أوجبه ومنها ما استحبه ورغب فيه ومن أعظم ما اعتني به ومن أكثر ما أولاه اهتمام ورعاية خطبة الجمعة وذلك في اختيار الوقت والمكان وأهمية الحضور وآداب الاستماع والبعد عن الصوارف والمشاغل.
وهذا بيان لشيء من تلك الأهمية لخطبة الجمعة والتي تتضح من عدة جوانب وتظهر من عدة وجوه: فخطبة الجمعة من مقاصد صلاة الجمعة وهي كذلك لها مقاصد وحكم من ذكر الله والدعوة إليه وتبليغ دينه والتعلم والتعليم وجمع الناس وتآلفهم ووحدة صفهم وجمع كلمتهم.
فمن حيث وقت وزمان الصلاة وخطبتها فقد اختار لها الشارع يوم الجمعة خير أيام الأسبوع وهو سيد الأيام وأفضلها قال صلى الله عليه وسلم: (خير يومٍ طلعَتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمعَةِ فيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ أُدْخِلَ الجنَّةَ، وفيهِ أُخْرِجَ منهَا، ولا تَقُومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمعَةِ) وهو يوم عيد للمسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك).
وأما من حيث المكان ففي المسجد والجامع وهي بيوت الله في أرضه وهي زينة الأرض كمثل النجوم في السماء وهل يوجد على الأرض مكانا أشرف وأطهر من بيوت الله (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) ومن حيث الحضور فقد أمر الله به وجوبا مع مراعاة الأهلية، ومن حيث الإنصات والاستماع فقد نهى الشارع عن كل ما يشغل أو يصرف عن حضورها من البيع والشراء وغيره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وشرع جملة من آداب الاستماع فقد شرع الدنو من الخطيب وأوجب الإنصات له وحرم الكلام أثناء الخطبة وكذلك اللهو بالحصى أو غيره كل ذلك ليستوعب المخاطب ما يذكره به الخطيب أو يعظه به في خطبته قال صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك أنصِتْ، والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت».
وقال صلى الله عليه وسلم : ((من تَوضَّأ فأحسنَ الوضوءَ ثمَّ أتى الجمعةَ فاستمعَ وأنصتَ غُفِرَ لَه ما بينَ الجمعةِ إلى الجمعةِ وزيادةَ ثلاثةِ أيَّامٍ ومن مسَّ الحصى فقد لغا) فهذه الأدلة ترشد لوجوب الإنصات والعناية بالاستماع وتفريغ القلب لذلك القول والانتباه لتلك الكلمات والمواعظ.
وأيضا فلأهمية هذه الخطبة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إشغال الناس والتشويش عليهم بتخطي رقابهم ونحو ذلك مما يَصْرفهم عن الاستماع والاستفادة والاتعاظ.
فقد روى الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجلس، فقد آذيت).
فخطبة قد حظيت بهذه الأهمية الكبرى والمكانة العليا قد هيئ له ما ذكر وأكثر وأمر المستمع بإحضار قلبه وحسن الإنصات والبعد عن كل الشواغل وعن كل ما يمنع أو يقطع الاستيعاب، هل يليق بالخطيب أن يتهاون في إعدادها أو يفرط في العناية بها أو هل يقبل أن يسردها شخص في خمس دقائق بشكل قد فقد كل معنى الإتقان والعناية وكأنها مجرد واجب يريد الخروج من عهدته ولو بأدنى امتثال والله المستعان.
فلتلك الأهمية ولذلك الأمر أحببت التنبيه والتذكير ببعض ما يتعلق بهذه الخطبة المباركة :
أولا : من حيث أهميتها ومكانتها وعناية الإسلام بها فقد ذكر أول الكلام ما يكفي عن إعادته.
ثانيا : من حيث الخطيب والمتكلم نفسه وسلوكه الشخصي فإنه غالبا ما يكون خطيبا في قومه وفي مجتمعه الذي يختلط به ويعيش فيه فيتأكد عليه -بعد تقوى الله وإخلاص النية لله تعالى- أن يكون تلك القدوة الحسنة الذي يؤثر بسلوكه ويدعو بتعامله قبل خطابه وكلماته فيتحلى بالصبر على قومه وعلى جيرانه فإن لا سلامة لأحد من الأذى ويجعل الإحسان إليهم شعاره ودثاره بالقول والفعل والمال والجاه فإن للإحسان تأثيرا عجيبا في جمع القلوب ونفوذ الكلمة وليسبق فعله قوله بأن يكون أول الممتثلين لما يأمره به وأول التاركين لما ينهاهم عنه.
وأما من حيث العناية بالخطبة فإنه يتأكد عليه كل التأكد العناية بالخطبة موضوعا متسلسلا ومضمونا نافعا وأداء بينا وجملا متناسبة وإعرابا خاليا من اللحن والغرابة لتكون خطبة نافعة مفيدة بحول الله.
ثانياً من حيث الوقت: فقد قال صلى الله عليه وسلم : (إن طولَ صلاةِ الرجلِ و قِصَرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهِه ، فأَطيلوا الصلاةَ ، و أَقصِروا الخُطبةَ ، وإنَّ من البيانِ لَسحرًا).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبلغهم بيانا وكانت خطبه ميزانا لمن بعده من خطباء الشريعة ومتحدثي الإسلام فقد كان ينفع المستمع ويحذر من إملاله أو أن يسأم من الموعظة فإن لا نفع يذكر مع الملل والسآمة.
فينبغي للخطيب أن يحذر التطويل الممل للناس تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن الشارع قد أوجب على الحاضرين الإنصات والسكوت والبعد عن كل ما يشغل عن الاستماع وفي التطويل مشقة علهيم وإرهاقا لهم.
وكذلك الحال في القصر المخل فليحذر الخطيب من تقصير الزمن الذي يذهب بمكانة الخطبة وأهميتها ويتنافى مع كثير الاستعدادات والاهتامات التي أمر بها المصلي والذاهب إلى الجمعة، فتجد بعض الخطباء هداهم الله يسرد خطبته في سبع أو خمس دقائق وكأن المراد الخروج من عهدة الوجوب فقط.
نعم ليس الطول معيار البيان وليس القصر معيار البلاغة وإنما العبرة من حيث الموضوع وحدة وتناسبا وتسلسلا وكذلك الأسلوب اللغوي المناسب والإعراب والسلامة من اللحن ومن تنافر الكلمات ووضوح الفكرة وارتباط العناصر فلربما كانت خطبة طويلة متناسقة أخف من خطبة قصيرة.
وليحافظ الإمام على العمل بالسنة في القراءة في صلاة قدر المستطاع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الأعلى والغاشية وكذلك يقرأ بسورتي الجمعة والمنافقين.
هذا ما يسره الله وأختم كتابتي بهذه الفقرة وهي العناية والتقدير للحاضرين من المسلمين الذين لا يفهون الخطاب العربي.. فكلنا يرى كثافة الحاضرين من إخواننا المسلمين من شرق آسيا من الهند والباكستان وبنغلادش وغيرها من الدول الإسلامية خاصة في المناطق الصناعية- وكلهم إلا قليلا لا يعرفون من العربية إلا نزرا يسيرا وهم حريصون جدا على صلاة الجمعة وكثير منهم يبادر في الحضور ولكن مع الأسف لا يستفيد من الخطبة تلك الفائدة بسبب اللغة ولا يخفى شدة حاجتهم للتعليم وخاصة في أمور العقيدة وأحكام الصلاة.
فلو حددت في المناطق الصناعية وفي المحافظات جوامع يخطب فيها باللغة الأوردية لأنها لغة مشتركة بينهم لكان أمرا حسنا وشيئاً نافعا وهم سيعرفونها من خلال الإعلانات ووسائل التواصل فيما بينهم أو توضع شاشات ننرجم فيها الخطبة كتابة أو يلخص لهم أحد الدعاة الذين يجيدون لغتهم ما ذكره الخطيب ولو بعد صلاة الجمعة فإن لهم حقا وهم في حاجة ماسة للتعليم والفقه.. (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).
التعليقات 4
4 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
Refatmmdoh123
08/12/2022 في 6:52 ص[3] رابط التعليق
جزاكم ربي خير الجزاء
عبدالرحمن منشي
08/12/2022 في 8:52 ص[3] رابط التعليق
ماشاء الله تبارك الله مقال ومقترحات جميلة، جزأ الله شيخنا سالم على مواضعه التي تلامس مجتمعنا بهذه المقالات.
اسماعيل حداد
08/12/2022 في 2:24 م[3] رابط التعليق
جزاك الله خير على حُسن التوجيه و الاشادة بفصل الجمعة و الخطبة
المقترحات جدأ جميلة لو وجدت تطبيقا فعليًا الى جانب اضافة امكانية شرح بلغة الاشارة لذوي الهمم
عمار الغانمي
08/12/2022 في 5:31 م[3] رابط التعليق
جزاك الله خير الشيخ الفاضل سالم