الكاتب : أيمن الخميسي
البكاءُ والنَّحِيطُ متنفسٌ للإنسان وعامل مهم في تكوينه العاطفي، ولا يوجد إنسان بلا عاطفة أو رحمة تتخلل قلبه، وقد يعترض أحدهم ويقول الرِّجال لا يبكون وإنما يكفيهم الحزن العابر، فالبكاء للنساء لأنَّهُنَّ خُلِقنّ من ضعف بعكس الرجال!
قبل أن أبدأ في سرد المقال لابد أن أزيل هذا الإشكال الذي بُني على الجلافة!
أقوى الرجال وأكملهم محمد ﷺ فقد بكى في مواقف كثيرة ومنها بكائه على ابنه إبراهيم فقال: ((إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)).
وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما أراد النبي ﷺ أن يقدمه نيابة عنه للإمامة قالوا عنه إنه رجل اسيف أي كثير البكاء، وكذلك عمر بن الخطاب وما أدراكم ما عمر كان في وجههِ خَطَّانِ أَسودَانِ من الْبُكَاءِ، ولا تجد أحد من السلف إلا وله حظٌ من البكاء بل وصل الحال لبعضهم إلى العمى يقول الشاطبي رحمه الله: "جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم".
للبكاء دوافع كثيرة وأسباب متعددة قد يكون من خشية الله أو الحزن أو العشق أو غير ذلك، فالقاسم المشترك بينهم سكب العبرات على الخدود، ليكون متنفساً للقلب، أو بمعنى آخر مناجاة وشكوى بين القلب والعين بلغة لا يفهمها بقية أعضاء الجسد!
وأجمل من تنفس بالبكاء وعبر عنه هم الشعراء في مراثيهم وغزلهم، تقول الخنساء في رثاء أخيها :
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ
فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
ويقول الجواهري في رثاء زوجته :
عزَّتْ دموعيَ لو لمْ تَبعثي شَجَناً
رَجعت مِنه لحرِّ الدمع أبترِد
خَلعتُ ثوبَ اصطِبارٍ كانَ يَستُرنُي
وبانَ كِذبُ ادِعائي أنَّني جَلِد
بكَيتُ حتَّى بكا من ليسَ يعرِفُني
ونُحتُ حتَّى حكاني طائرٌ غَرِد
ويقول سامي البارودي :
وَأَيُّ فُؤَادٍ لَمْ يَبِتْ لِمُصَابِهِ
عَلَى لَوْعَةٍ أَوْ مُقْلَةٍ لَيْسَ تَدْمَعُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّمْعِ فِي الْخَدِّ مَسْرَبٌ
رَوِيٌّ فَمَا لِلْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ مَوْضِعُ
وأما أهل الغزل والنسيب، والعشق والتشبيب، فلهم باع طويل في البكاء والنوح، والشكوى والبوح، سأذكر في المقال بعضاً منها وهي غيضٌ من فيض، وبَرْضٌ من عِدٍّ، وجمعت منه الكثير في سفّرٍ مازال في سردابٍ مظلم منذ سنوات يخشى مواجهة الناس، ويقال أن اسمه أضواء القناديل على أجمل ما قيل في الغزل وعذب الأقاويل، أعود إلى ذكر البكاء لأهل العشق في أشعارهم، فلهم من الكلام أجزله، والوصف أجمله، ومن المعاني أدقها، والألفاظ أعذبها!
يقول عمر بن أبي ربيعة:
وَالدَمعُ لِلشَوقِ مِتباعٌ فَما ذُكِرَت
إِلّا تَرَقرَقَ دَمعُ العَينِ فَاِنسَكَبا
ويقول البحتري :
قَد أَرَتكَ الدُموعُ يَومَ تَوَلَّت
ظُعُنُ الحَيِّ ماوَراءَ الدُموعِ
عَبَراتٌ مِلءُ الجُفونِ مَرَتها
حُرَقٌ في الفُؤادِ مِلءُ الضُلوعِ
ويقول كريم العراقي :
وعذرته لما تساقط دمعهُ
ونسيت أياماً بها أبكاني
ويقول بهاء الدين زهير:
وَقَفتُ أَبكي وَراحَت وَهيَ باكِيَةٌ
تَسيرُ عَنّي قَليلاً ثُمَّ تَلتَفِتُ
فَيا فُؤادِيَ كَم وَجدٍ وَكَم حَزَنٍ
وَيا زَمانِيَ ذا جَورٌ وَذا عَنَتُ
لقد أطلت الكلام فالكلام كثير، وأخشى من الملل أن يعتريكم، فإني اكتفي بهذا القدر، وأتوقف فالشعر يلحق الكلام ببعضه، ويسرق الوقت!
التعليقات 1
1 pings
N J
17/06/2023 في 3:22 م[3] رابط التعليق
إبداعك يجعلني أحب المقال دون ملل وكلل.