في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها المجتمعات الحديثة تبرز أهمية تطوير القيادة المجتمعية داخل الجمعيات الأهلية كعامل حاسم لتحقيق التنمية المستدامة .. فالقيادة الفعالة في العمل الأهلي تتجاوز المهارات الإدارية التقليدية، وتنطلق لتشمل رؤى استراتيجية وقدرة على تحفيز الأفراد والمجتمعات لتحقيق أهداف مشتركة تسهم في تحسين جودة الحياة.
القادة الفعّالون في الجمعيات الأهلية يتميزون بخصائص تجعلهم قادرين على تحقيق التغيير الإيجابي. حيث يجب أن يكون لديهم رؤية شاملة وعميقة للاحتياجات المجتمعية وكيفية تلبية هذه الاحتياجات بطرق مبتكرة ومستدامة. وهذه الرؤية تتطلب فهمًا متقدمًا للنماذج التنموية الحديثة التي تعتمد على التفاعل المستدام بين مختلف القطاعات المجتمعية.
في هذا السياق، يعتبر التفاعل العابر للحدود أحد الأساليب الحديثة في تعزيز القيادة المجتمعية.. من خلال تبني منهجيات مثل التعليم العابر للثقافات والتعاون الدولي، يمكن للقادة المحليين الاستفادة من التجارب والخبرات العالمية لتحقيق نتائج محلية فعالة. على سبيل المثال، نجحت جمعية "أطباء بلا حدود" في تطبيق نموذج القيادة العابر للثقافات، مما ساهم في تعزيز قدراتها على الاستجابة للأزمات الصحية في المتأثرة بالأزمات الإنسانية.
برامج تطوير القادة الشباب تعد من الركائز الأساسية لبناء قاعدة قيادية قوية ومستدامة حيث يجب أن تكون هذه البرامج شاملة تغطي الجوانب النظرية والعملية للقيادة، وتوفر للشباب فرصاً للتعلم من التجارب الواقعية. ومن الأفكار المبتكرة في هذا المجال هي إقامة شراكات مع الجامعات والمؤسسات التعليمية لتطوير مناهج تعليمية مخصصة لتدريب القادة الشباب في العمل الأهلي. ويمكن أن تتضمن هذه المناهج دورات في الابتكار الاجتماعي والتفكير التصميمي لحل المشكلات، تحليل البيانات لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وإدارة التغيير التنظيمي وتعزيز المرونة المؤسسية.
على سبيل المثال .. الابتكار الاجتماعي من الركائز الجوهرية التي يعتمد عليها القادة المجتمعيون لتحقيق التنمية المستدامة. هذا المفهوم يتطلب تبني نهج متعدد التخصصات يجمع بين العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية لتقديم حلول جديدة ومستدامة للتحديات المحلية.. ومن النماذج مؤسسة "أشوكا" حيث نجحت في تطبيق نموذج الابتكار الاجتماعي من خلال شبكتها العالمية من رواد الأعمال الاجتماعيين، مما ساهم في تحقيق تأثير إيجابي واسع النطاق في مختلف المجالات التنموية.
يجب أن نعلم أن دور القادة في تحقيق التنمية المستدامة يتطلب التعاون المثمر مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص. حيث يلزم القادة المجتمعيين العمل على بناء شبكات تعاون مع هذه الجهات للتأثير في صنع القرار وتحقيق تغييرات تشريعية تدعم أهداف التنمية المستدامة. وهذا يتطلب مهارات دبلوماسية ومعرفة عميقة بالأنظمة السياسية والاقتصادية.. لضمان العمل بشكل فعال ومتوافق مع القوانين واللوائح المعمول بها.
تعتبر الشفافية والمساءلة من العناصر الحيوية في القيادة المجتمعية الفعّالة. يجب أن يكون القادة نموذجاً يُحتذى به في النزاهة والأخلاق، وأن يعملوا على تعزيز الشفافية في جميع جوانب عمل الجمعية. يمكن تحقيق ذلك من خلال تبني سياسات وإجراءات واضحة للمساءلة، والتواصل المستمر مع جميع الأطراف المعنية حول سير العمل ونتائج المبادرات. هذا يعزز من ثقة المجتمع والداعمين ويضمن استدامة الجهود التنموية.
و من الجوانب الأكثر تطوراً في القيادة المجتمعية الحديثة هو اعتماد النماذج القائمة على البيانات لتحليل وتوجيه القرارات الاستراتيجية. فاستخدام التحليلات المتقدمة والتعلم الآلي يمكن أن يساعد القادة على فهم الأنماط والتوجهات المجتمعية بشكل أفضل، مما يمكنهم من توجيه الموارد بفعالية أكبر وتحقيق تأثير أكبر.
في الختام .. تطوير القيادة المجتمعية داخل الجمعيات الأهلية يتطلب رؤية شاملة ومبتكرة، حيث تستفيد من المنهجيات الحديثة وتعتمد على التعليم المستمر والتفاعل المجتمعي .. والقادة الفعّالون يمكنهم تحقيق تأثير كبير من خلال تبني نهج استراتيجي يتسم بالشفافية والمساءلة، ويهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة بطرق جديدة ومبتكرة. هذا الدور القيادي لا يقتصر فقط على إدارة الأنشطة اليومية، بل يتعدى ذلك إلى بناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة للمجتمع ككل.
المسؤول التنفيذي بجمعية التنمية الأهلية بوادي جازان، الأستاذة : نورة الدباغ