الكاتبة : هويدا المرشود
لا تتحدث القصيم كثيرًا، لكنها تُفهم.
ليست من المناطق التي تعلن حضورها بصخب الأبراج أو أضواء المهرجانات، بل بحضور يتكثف في أدق تفاصيل الأرض: نخلة وحيدة على طرف مزرعة، سوق ضيق يشبه ذاكرة الأمكنة، مسجد تُروى فيه السور بلكنة أهل الأرض، لا بأداء مستورد.
هذه الأرض ليست مجرد منطقة زراعية، بل هي جغرافيا الوعي، نضجت تحت شمس قاسية، فصارت تزن الأمور بميزان مختلف.
القصيم تعرف الصبر كما يعرف الفلاح موسم القطاف، تقيس الزمن بالمعنى، لا بالساعات، وتبني علاقتها بالعالم عبر قيم تشبه توازن نخيلها: شامخة، لا متعالية.
هنا لا ينفصل العلم عن الحياة، ولا الفقه عن السوق، ولا الجذر عن المستقبل، في كل مدينة من مدن القصيم، نقطة توازن بين التقاليد والنهضة، بين الوقار والانفتاح، كأن الأرض تعلّمت كيف تمضي الوقت دون أن تفقد ذاكرتها.
وفي ذاكرة هذه الأرض، أسماء أضاءت صفحات التاريخ السعودي: الشيخ محمد بن صالح العثيمين، المفسر والعالم من عنيزة، الذي خرّج أجيالاً في علوم الشريعة، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، القاضي والإمام من بريدة، صاحب المواقف الفقهية الرصينة، ونجله الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام، الذي حمل راية العلم والنهضة في القصيم.
هؤلاء العلماء لم يكونوا أسماءً تُذكر فقط، بل جُسور علمية تربط الماضي بالحاضر، وصانعي هوية فكرية متجددة.
العلم في القصيم لا يُعلّق على الجدران، بل يُعاش، مدارس القرآن، دروس المساجد، المجالس التي تجمع الفقيه بالتاجر والمزارع، تُشكّل مناخًا ذهنيًا فريدًا يجعل القصيم منطقة لا تغري بالمظاهر، بل تجذب بالمحتوى.
وليس غريبًا أن تكون القصيم قلبًا نابضًا في مسيرة توحيد المملكة، حين ترددت جهات ثبتت مدن مثل بريدة وعنيزة والرس حضور الدولة السعودية، ليس بحماس لحظي، بل بقناعة راسخة بأن وحدة الأرض تسبق اختلاف الاجتهاد، وأن المستقبل يُبنى على التلاحم.
القصيم مدينة التفاصيل الدقيقة، فيها لا يُقاس النجاح بعدد المشاريع، بل باندماجها في النسيج المحلي.
السوق الشعبي ليس مكانًا للتبادل فقط، بل حوار يومي بين أجيال. الفطور الجماعي تقليد يحتفظ بدلالته العميقة.
المهرجانات الزراعية تستبطن روح الانتماء للأرض، كل شيء يوحي أن الناس لا يعيشون في القصيم فقط، بل يعيشون منها وبها.
المرأة في القصيم ليست حالة استثنائية، بل ركيزة أصيلة في النسيج الاجتماعي، في صناعة الكليجا والرمان والفخار، التعليم، الإدارة، وصياغة الفعل المدني، تلعب دورًا جوهريًا، ليس كتمكين طارئ، بل كامتداد طبيعي لوجودها.
وفي هذا التوازن بين التديّن والتحديث، العمل الفردي والانخراط المجتمعي، تتمايز القصيم عن غيرها، لا تقلد، ولا ترفض، تعرف متى تفتح النوافذ، ومتى تغلقها، متى تستمع، ومتى تقود.
لهذا، لا تُختصر القصيم في وصف سريع، فهي ليست منطقة وسطى، بل نقطة التقاء بين المفاهيم: بين الدين والعقل، الريف والفكر، الجغرافيا والمصير.
حضورها هادئ، لكنه لا يمر بلا أثر، صمتها فصيح لكنه يعبر عندما يحين الوقت.
هكذا تُفهم القصيم: لا بالخريطة، بل بالنبض.