الكاتبة : هويدا المرشود
في كثير من البيوت، لم يعُد الأب في مكانه، لا في صدر المجلس، ولا على المائدة، ولا حتى في لحظة القرار.
صار عالقًا في الممر، ذلك الفراغ الصامت بين الباب الخارجي وصرخة المسؤولية…
يقف هناك، مترددًا،
لا داخلًا بما يكفي، ولا خارجًا بما يُريح.
من علّقه هناك؟
هل هي زوجة ضيّقت المساحة؟
أم ثقافة اجتماعية أرّخته دون أن تُنصفه؟
أم جيل جديد لم يمنحه مقعدًا في خريطة العائلة؟
أم هو… من سلّم مفاتيحه بنفسه، واكتفى بالوقوف عند العتبة؟
كانوا يقولون قديمًا: “الأب هو الهيبة.”
ثم صار يُقال: “الأب غائب.”
حتى أصبح يُقال اليوم: “نحن لم نعرفه أصلًا.”
جيل كامل يعرف أمّه بالتفصيل:
ساعاتها، حزنها، نبرات صوتها، وجبة الإفطار المفضلة لديها.. لكن الأب؟
بقي هناك، في “الممر”،
تحت لافتة باهتة:
“مشغول دائمًا، صارم غالبًا، مجهول تمامًا.”
أب لا نكرهه.. لكن لا نتذكّره.
نتحدث عن الأم في القصائد، في الدراما، على المنصّات،
أما الأب؟ جُملته الوحيدة: “وفّر لنا حياة كريمة.”
لكن هل كانت الحياة كريمة فعلًا دون حضوره؟
دون أن نراه يضحك؟
أو ينهار؟
أو يضعف؟
نحن من عطّل الأب.. ثم تساءلنا من يُربّي الذكور؟
نحن من جعله صوتًا ثانويًا.. يرى أبناءه يُخطئون فيسكت، يرى بناته تتشكّلن بعيدًا عنه فلا يتدخل،
ويرى زوجته تتولى القيادة فيصمت، خشية أن يُربك توازنًا هشًا.
النتيجة؟
أبناءٌ بلا مرآة.
وأبٌ بلا هوية.
وعائلة بلا مركز ثقل.
لسنا نطلب سلطة.
ولا نطالب برأس الطاولة.
بل فقط.. نمدّ أيدينا ونقول: “عد، نحن بحاجة لوجودك.
عد لتكون رأيًا لا يُهمّش،
وكتفًا لا يُختصر،
وإنسانًا لا ظلًا.
فالأب هو من تعب ولم يُحتفَ بتعبه،
وكابر ولم يُسمح له أن ينهار،
وأحب… لكن لم يُتقن البوح.
فتركناه هناك.. في الممر.
آن للبيت أن يُعيده.
آن للابن أن يجلس مع أبيه لا ليطلب، بل ليسأل:
“كيف كنت تفكر حين كنت في عُمري؟
وآن للبنت أن تعرف أن في قلب أبيها حكاية لم تُروَ بعد.
فالأب ليس جهة دفع.
وليس رجلًا على العتبة.
بل هو الجذر.. وإن غاب عن النظر.


