في بعض المجتمعات، يتخذ التقاعد غالبًا صورة النهاية؛ نهاية وظيفة، نهاية عطاء، وربما نهاية حضور فاعل في الشأن العام. ومع أن التقاعد نظاميًا يعني الخروج من الخدمة الرسمية، إلا أنه لا يجب أن يعني بالضرورة الخروج من الحياة المهنية أو المجتمعية.
إن كبار السن والمتقاعدين يمثلون شريحة ضخمة من الرصيد البشري في أي أمة. فهم يمتلكون خبرات تراكمت عبر عقود من العمل والتجربة والإنجاز، وهي خبرات لا تُكتسب في الكتب، ولا تعوّض بالدورات التدريبية. إنهم - ببساطة - ذاكرة حية للمؤسسات والمهن، ومخزون معرفي لا ينبغي أن يُركن جانبًا أو يُهمل لمجرد بلوغهم سن التقاعد.
"فجوة الاستفادة.. بين الواقع والطموح"..
على الرغم من وضوح هذه الحقيقة، إلا أن واقع الحال يُظهر فجوة كبيرة بين ما يمكن أن يُقدّمه المتقاعدون، وبين ما يُتاح لهم فعليًا. فكثير منهم يجد نفسه - بعد التقاعد - في عزلة مهنية واجتماعية، وقد يمر بتقلبات نفسية وشعور بعدم الجدوى. يحدث هذا بينما المجتمع في أمسّ الحاجة إلى الخبرة، ومؤسساتنا بأمسّ الحاجة إلى الرؤية المتأنية والنضج الإداري الذي يملكه هؤلاء.
لماذا لا نُفعّل الاستثمار الحقيقي فيهم؟ *ماذا لو نظرنا إلى التقاعد لا كنهاية، بل كبداية جديدة؟
ماذا لو أنشأنا شركات أو مبادرات استثمارية مرنة، تحتضن المتقاعدين الذين لديهم الرغبة والقدرة على العطاء؟
ماذا لو أتاحت هذه المبادرات بيئة عمل مرنة، تعزز الاستقلالية وتراعي الاحتياجات الشخصية، مع تمكينهم من الاستمرار في ممارسة مهاراتهم في نطاقات مناسبة؟
تخيل مثلاً: متقاعدين يعملون كمستشارين فخريين في شركات ومؤسسات ــ أو يقودون حاضنات أعمال لتأهيل الشباب ــ أو يُنشئون مكاتب تدريب، أو فرق تقييم وتطوير إداري.
بهذا الشكل، لا يكون التقاعد انقطاعًا، بل تحولاً مرنًا من العمل التنفيذي إلى العمل الإشرافي أو الإرشادي أو الاستثماري.
"بين الجيلين.. تكامل لا صراع"؟
من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن استثمار المتقاعدين دون التطرق إلى العلاقة بين الأجيال. فالواقع يكشف عن فجوة حقيقية بين الجيل الجديد الطموح المتحمس، والجيل الأكبر الخبير الناضج، وهي فجوة كثيرًا ما تتخللها عادات سلبية أو مقاومة للتغيير من الطرفين، خصوصًا حين تكون بعض السلوكيات أو الأساليب متجذّرة، وتحظى بحماية ممن هم في مواقع القرار.
ومع ذلك، فإن الحل لا يكون بالإقصاء، بل بالتكامل: الجيل الشاب يملك الطاقة والسرعة والتقنية، والجيل الأكبر يملك الخبرة والرؤية والاتزان. وما أحوجنا إلى بيئات عمل تجمع بين الجيلين، وتمنح كل منهما فرصة للفعل، لا للمجرد الحضور الرمزي.
ما الذي نحتاجه الآن؟
نحتاج إلى تحوّل فكري في طريقة تعاملنا مع فئة المتقاعدين، من منطق "الإعفاء" إلى منطق "الاستثمار".
ونحتاج إلى مبادرات أهلية، أو دعم حكومي، أو شراكات مجتمعية تؤسس لمنظومة: تُمكّن المتقاعد من اختيار الاستمرارـ ـ وتُعيد دمجه وفق ما يتناسب مع خبراته ـ وتُحقق التنمية من خلاله لا على حسابه.
في الختام المتقاعد ليس ورقة انتهت، بل هو فصل ناضج من كتاب الوطن، ينبغي أن يُعاد فتحه وتفعيله، لا أن يُركن في الأدراج. ولعل من واجبنا أن نعيد الاعتبار لتلك الطاقات الكامنة، وأن نُعطي لمن أراد منهم فرصة ثانية، ليس فقط ليُثبت كفاءته من جديد، بل ليُسهم في بناء وطن لا يُهمل أحدًا ممن يستطيع أن يُعطي.



التعليقات 2
2 pings
A
24/07/2025 في 12:39 ص[3] رابط التعليق
رائع جداً
Ts
24/07/2025 في 1:13 م[3] رابط التعليق
رائع جداً