رحل أبي، وبقي أثره, رحل الجسد، لكن الروح ما زالت تملأ البيت والحياة معاً. أراه في جلسته المألوفة، ساكناً، مطمئناً، يضع يده على رأسه وكأنه يمسّد العمر كله، وفي عينيه بقايا حكمة وتجربة ورضا.
كتبتُ عنه في حياته قبل أربعة أعوام من رحيله، وقلت يومها إنه الصديق الأوّل والأهم والأجمل، وأدركت بعد رحيله أنني كنت محظوظاً أن نطقت بها وهو يسمع، وأنني لم أؤجّل محبتي إلى ما بعد الغياب. فقد كان أبي أباً وصديقاً ورفيقاً، يعلّمني أن الأبوّة ليست سلطة ولا وصاية، بل قلبٌ مفتوح، ورفقة دافئة، وصداقة لا تشبه غيرها.
كان بسيطاً في حياته، عظيم القيمة في أعيننا. قليل الكلام، كثير الحكمة، فإذا تحدّث أنصت الجميع، لا لأن صوته عالٍ، بل لأن كلماته كانت أثقل من الذهب. وكان بيته للناس جميعاً، مفتوحاً بالكرم الجنوبي الذي لا يزول، فيه يجد الضيف مكانه، ويشعر الغريب أنه بين أهله.
لقد عاش أبي كما ينبغي لرجل نبيل أن يعيش: لا يطلب من الدنيا إلاّ كفافها، ولا يترك خلفه إلاّ سيرةً عطرة وذكراً جميلاً. واليوم، كلما تذكّرت غيابه، شعرت أنّ أجمل ما فعلته أن كتبت عنه في حياته، أن أعلنت له وللعالم أنني أعدّه صديقي الأوّل والأجمل، وأنه سيبقى كذلك إلى آخر العمر.
رحمك الله يا أبي، وأسكنك الفردوس الأعلى، فقد كنت أباً عظيماً، وصديقاً نادراً، وإنساناً لا يتكرّر.


