الكاتبة : هويدا المرشود
عُنيزة.. مدينة تمشي على مهل، كأنها تعرف قدرها وتدرك أن الجمال ما يُركض له، بل يُعاش.
شمسها تطلع من بين النخل، ونورها له نكهة مختلفة، كأنه ضوء من ذاكرةٍ قديمةٍ ما انطفأت أبدًا، رملها يحتفظ بأثر الخطا، وصوتها في الهواء يشبه صوت الحنين.
من أولها إلى آخرها، تروي الحكاية نفسها: أصالة تمتد، وحياة تتجدّد، سيرة بين الرمل والماء كانت البداية بئرًا صغيرة وبساتين، وناسٍ تزرع وتبني على نيتها الطيبة، لم تنتظر أحداً يعرفها، هي اللي جعلت نفسها معروفة بين القوافل والرحالة.
تجارة، علم، وكرمٍ يسبق الاسم ومع الوقت، صارت مثل نجمةٍ وسط نجد، يزورها الشعراء والتجار، ويتحدث عنها الرحالة بإعجاب.
ذاك اليوم يوم وصفها أمين الريحاني بباريس نجد، ما كان يبالغ، رأي فيها ذوق راقٍ، وعمران مبكر، وحياةٍ فيها نكهة مدينةٍ تعرف التمدّن من غير ما تفقد طبعها الأصيل.
عُنيزة اليوم تلبس الحداثة بذوق، وتبقى على أصلها، مشاريعها تمشي بخطط مدروسة، من تطوير البنية التحتية إلى تنظيم المهرجانات اللي صارت علامة تُعرف بها.
شوارعها تزداد اتساعًا، ومبانيها تزداد ترتيبًا، لكن روحها كما هي، فيها دفء ما تغيّر، وبلديتها تعمل بعينٍ على الحاضر، وأخرى على التراث، وأهلها لا ينتظرون أحداً يبدأ، هم دائمًا السباقين بالخطوة.
جمالها في توازنها، عُنيزة تعرف ماذا تريد، تحب البساطة، وتفهم أن التطور ما يعني التنازل عن الطابع، تجمع بين الأسواق القديمة والمراكز الحديثة، بين النخيل والمصانع، بين التراث والمستقبل.
من يزورها يحس أنه وسط لوحةٍ حيّة، كل زاوية فيها تقول: نتغيّر، بس ما ننسى من وأين بدينا، من جادة التمور اللي صارت وجهة للسياح، إلى مهرجان عنيزة للزراعة اللي يثبت أن الأرض ما زالت تعطي، تعيش المدينة على إيقاعها الخاص، إيقاع يجمع الطين والزجاج، التراث والعصر.
الناس.. سر الحكاية، المدينة تُقاس بأهلها، وأهل عنيزة من النوع اللي يخلي المكان يزهر، من قديم الوقت وهم أهل علمٍ وكرمٍ وفطنة، فتحوا بيوتهم للغريب، وعلّموا أبناءهم أن الكلمة الطيبة تبني أكثر من الحجر.
اليوم، الجيل الجديد يمشي على نفس النهج، لكنه بوعي العصر، يخدم، يفكر، يبتكر، ويواصل الطريق اللي بداه الأجداد، بنفس الأصالة، لكن بأدوات جديدة.
بين الأمس واليوم.. الفرق بين أمسها ويومها مثل الفرق بين الفجر والضحى النور واحد، بس الوهج تغيّر، كانت ملهمة، واليوم صارت نموذج يحتذى به في التنظيم والتنمية والذوق، تمسك بجذورها بيد، وتزرع المستقبل باليد الثانية، تمشي بخطا ثابتة، لا تستعجل المجد، وتعرف أن النجاح يأتي لمن يشتغل بصمت.
عُنيزة لا تنتظر أحد يعرّفها، هي الحكاية بذاتها، من وادي الرمة إلى مزارع النخيل، من الأسواق القديمة إلى المشاريع الحديثة، كل شي فيها يقول: أنا مدينة أعرف قيمتي.
لقب باريس نجد ما هو مجاز، هو وصف لروحٍ راقيةٍ ما تعرف الانطفاء، هي ذاك التوازن النادر بين الطين والعِلم، بين الدفء والحكمة، بين الماضي اللي بنى، والحاضر اللي يكمّل.
وما بين الأمس واليوم، تظلّ عُنيزة تروي قصتها على مهل.. مدينة تعرف أنها ما تمر مرور الكلام، بل تبقى أثرٍ خالدٍ في ذاكرة نجد، وفي قلب كل من مرّ بها مرة… وما نساها أبدًا.


