فيصل البنوي
وأُسدِل السِّتارُ فجأةً, وانطفأَ السِّراجُ لحظةً, وفُقِد العمُّ راجيًا , ودمع مصلَّاه فاقدًا, وودعته سجادته باكية, إنَّها لحظةُ الوداع الأخير في دنياه الفانية, رحل بخاتمةٍ حسنةٍ بعد النظرة الأخيرة في أبنائه, ودَّع الدنيا والدنيا لم تودِّعه, ذكرٌ طيب وسيرةٌ حسنة, كتب الله له خاتمةً حسنةً في أطهر بقعةٍ على وجه الدنيا .
بدأتْ ساعاتُ الرحيلِ تقتربُ منه دون علمه .. اقترب منه ملكُ الموتِ وأبلغه بموعدِ أجله .. المغرب يوم الاثنين بالحرمِ .. خرج من قريته التي تبعد (80 ك) بأمرٍ من ربه إلى الحرم .. جمع (العمُّ راجي) أبناءه الثلاثة في الحرم .. صلَّى العصر وأبلغهم بأنه قد دنا رحيله من هنا .. وانتهت مدَّة سفره .. وأنه راضي عنهم .. ثمَّ طاف بالكعبة .. وأولاده حوله لا يعرفون ما الأمر .. جلسوا معه ينظرون له بنظرة الوداع .. اقترب الأجلُ .. ودنا المَلَكُ منه .. همَسَ في أذنيه .. ألقِ نظرتُكَ وودِّعْ دنياكَ .. وسبِّحْ ربكَ وادعُ خالقك ..
انطلق صوتُ المؤذن .. وصلَّى (العم راجي) صلاةَ المغرب .. وبعد الصلاةِ بدقائقٍ معدودة .. نادى المؤذن الصلاة على الأموات .. فكبر التكبيرة الأولى وهو يصلي صلاة الميت .. ثم بعد ذلك سقط مغشيَّاً عليه .. قد فارق الحياة راجيًا وذاكرًا ومسبِّحًا .. مات مصلٍّيا في الحرمِ المكي, وسيُبعثُ مصلِّيًا يوم النشور ..
من ذا الذي لا يريد مثل خاتمته .. خاتمةٌ حسنة .. خاتمةُ المتقين .. من ذا الذي لا يريد نهرًا جاريًا .. من ذا الذي لا يريد تخليد ذكره عند خالقه .. من ذا الذي لا يريد أجلًا ببكَّة الطاهرة .. من ذا الذي لا يريد أن يكون مع رسول الهدى في الجنَّة .. أعوامًا والصلاة لم تفوته في المسجد .. أعوامًا والصفُّ الأول صديقه .. أعوامًا وقلبه معلَّق بالمساجد .. أعوامًا والخير رفيقه واليتامى محبِّيه ..
بحثتُ كثيرًا عن حسنِ خاتمته فلم أجدُ عملًا أعظم من كفالته لليتيم .. وهذا دلالةٌ على قول النبي صلى الله عليه وسلم ” أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة, وأشار بالسبَّابة والوسطى وفرَّق بينهما قليلا ” ف أعوامًا عديدة رعى اليتامى, ورسم البسمة عليهم, وأدخل الفرح على محيَّاهم, وأفنى عمره في سرورهم .. لذلك خُتِم له في أشرف مكان وأعظم بيتٍ عند ربِّ العباد, ..
ارحل .. يا راجيًا .. يا فائزًا .. فلن نبكيك .. ارحل فلن تدمع أعيُننا .. ف نحنُ منْ نعزِّي حالنا .. ونرثي أنفسنا .. ونبكي حياتنا .. ف رحيلك واعظًا .. وخيرك باقيًا .. وأثرك شاهدًا .. لك لا عليك ..
ودَّعتْ محافظة خليص وقبيلة (بني سُليم) قامةً شامخةً بسماء ذكرها, وشخصيةً عابدةً بعلوِّ اسمها الشيخ راجي بن عوض الله السلمي في ليلةٍ حزينة لنا, وسعيدةٍ له في حسنِ خاتمته, سجَّل بصمته في قلوبنا وكأنَّها أمامي, كلُّ ما رآني يبتسمُ طيبُ السريرة, ويسألُ عن والدتي وأخبارها, ما زلتُ أتذكَّرُ دعوته لي ” الله يحفظك ويرعاك ” لا عاد تُطوِّل علينا .. كلماتُه ما زال صداها تصدحُ, وعباراته ما زالتْ بساطتُها تهتفُ, ونصائحُه ما زال حسنها عابرٌ .
رثتْكَ خليص حزنًا يا راجيًا .. وأمطرتْ سحابةُ عطرك تاجًا غاليا
بكى عليك المسجدُ يا صائمًا .. وفاحَ ذكرُك ساميًا يا خاشعًا
وغدتْ لك أرضُ الصدرِ باكيةً .. وعلا اسمك في سليمَ رافعًا
والتفَّ أبناؤك حولك حاضرًا .. صنّاع أخلاقٍ وغرسًا مثمرًا
راجيًا داعيًا وذاكرًا .. فلا .. تحزنوا على فراقه مصليًّا وباكيًا
إن العين لتدمع, وإن القلب ليحزن, ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” , رحمك الله رحمة الأبرار, وأدخلك جنِّات عدن, ورفع ذكرك في عليِّيين, في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر .