أحملُ في هذا النص بُكاء لن تراه أبداً، ولكنك ستشعر به؛ لأنه سيخترقُك رغماً عنك.
كانت لصديقتي جدة مُبهرة وندية، كانت صديقتي مُتعلقة بها جداً وتُحبها كثيراً، كانت أكثر من كونِها جدة، كانت كُل العائلة وكُل الحياة، إلا أن صديقتي لم تحسب حساب ذلك اليوم! إنه وقت الظهيرة حين كانت تتحدث لأحد صديقاتِها جاءها الخبر كفاجعة، ككارثة، كبركان، كعاصفة قوية فعلت ما فعلت واختفت غِرة، كُل شيء صار غائماً، كُل شيء صار أسوداً، كل شيء صار ميتاً.
راودني اتصال من صديقتي في تلك الليلة الموحشة والمفزعة، لم أسمع منها سوى صوت بكائها، لم يصلني منها سوى دموع لاذعة، كانت تبكي بحرقة أحرقت بها قلبي، ظننت أنني خرساء فجأة، فأنا لم أستطع قول كلمة واحدة، شعرت حينها أن الكلمات -كل الكلمات- تخضع وتركع أمام البكاء، فما كان مني سوى أن بكيت على بكائها، بكيت لبُعدي عنها في تلك اللحظة حيث لم يكن بيننا سوى شاشة الهاتف، لم أستطع مد يدي لها واحتضانها، كان أسوأ شعور حين شعرت أنني عاجزة أمام صديقتي التي سمعت بُكائها لأول مرة منذ ثلاث سنين.
قالت لي وهي تبكي: سأُغلق الخط، قُلت: لا أرجوكِ، استمري بالبكاء ولكن لا تغلقي. فاستمرت في بُكائها وأنا أنصت لها جيداً ودموعي منهمرة دون أن أصدر صوتاً، حتى أنهكها البُكاء وأهلكها هذا اليوم الذي سرق من قلبها شيئاً لن يعود أبداً كما كان، قالت: سأُغلق الآن تعبتُ كثيراً. لم أستطع الرد فأغلقت. لكن ما لا أعرفهُ هو كيف لها أن تُغلق الخط ويستمر صوت بُكائها في أذني إلى الآن؟ لقد ترسخ في ذهني ارتجافة صوتها بكل انهزامية، لم أنم تلك الليلة، لم أستطع أن أغمض عينيّ، لم أكن أعرف أنني سأحزن لحزنها بهذا القدر، لم أكن أعرف أن بُكاءها ربما يُميتُني، كان الأمر يتجاوز قدرة تحملي، أشعر أنني مثقلة جداً، رغم ذلك لست أبالي بما أشعر، فأنا أستطيع تحمل حزني وبُكائي ولكن لا أستطيع تحمله لصديقتي، أود أن أنتزع ذلك الشعور المُر والقاسي من قلبِها وأضعهُ في قلبي، أود أن أحمل عنها هذا الثقل الماكث في صدرِها، أود لو أصرخ قائلة: “عودي أيتُها الجدة، عودي أرجوكِ، فهُنا حفيدتكِ تنتظركِ، لا تتركيها، لا تفعلي بها هذا لا تدعيها تبكي” ولكن لا. لن يحدث ذلك أبداً، فالموتى لا يعودون، والدموع المتناثرة لا تعود، والقلوب التي تموت مع أحبتها لا تعود، وكُل الطُرق لا تعرف الطريق للعودة، ولكن بطريقة ما يجب علي إرشاد صديقتي لتعود، يجب أن أنقذها وأنتشلها من الضباب الموحش، يجب أن أفعل شيئاً يا الله ساعدني أرجوك، يا الله أنا لا أقوى على رُأيتها هكذا ولا هيَ تقوى على تحمل ذلك، يا الله إنهُ لا يعجزك شيء وتقدر على كل شيء فأرجو منك أن تُخلصها من حُزنِها بطريقة تراها مُناسبة أنت يا الله.