إبراهيم خضر
لا زلت أحتمل الحياة، بعكس سمكتي التي قفزت خارج حوضها ليلة البارحة، وبينما كنت مستغرقًا في النوم كانت هي تنازع وحدها وتقضي قلق المصير، هذا صباح حزين.
أنا شخص صامت اعتاد الفضفضة للجمادات، كأن أسجن حزني برسمه في لوحة مُحدده واتركه هناك، أو أن أتخفف من ثقل الشعور بالكتابة عنه، وبكل بداهة رحت أبحث عن صلة تربطني بتلك السمكة الميته لأكتب عنها، وعند مفردة (أبحث) تعمقت كثيرًا بالتفكير في الحياة والموت وفي ذاتي أيضًا، ثم رُحتُ أغرِف من أعماقي، وأتحسس مآسي عِدة وجدتها بالقرب من مأساة فقدي للسمكة، كان كل شيء هناك يبدو قديمًا وكئيب، مع ذلك كل شيء هناك كان يشبهني وكأنه أنا في الصفوف الدراسية الأولى من الحياة، حرفيًا شعرت أنني امتداد لكل مأساة تحسستها ... يصيبك الذهول كم تصبح حياتك أوضح عندما تتذكر لحظات ضعفك وحاجتك ثم لا تتبرأ منها ولا تدّعي نسيانها.
ثم أعدت النظر مجددًا بمفرده (أبحث)، وراح قلمي يحك رأسه المليء بالفضفضة، وأسفل منشور جديد بصفحتي في الانستجرام، شرعت في كتابة الآتي:
《 وأنا أبحث عن سبب للقفزة الطائشة التي أودت بحياة السمكة، أطلق لسان حالي "ممممم" أبدية، تمتد من الماضي البشري، تحديدًا من كل لحظة سعى فيها المرء خلف سعادته، وبينما هو كذلك لم ينتبه أنه يصنع شقاءه.
"قمر" هي السمكة الرابعة التي قد اقتنيتها من فصيلة "الفايتر"، السمكة الأولى عاشت لثلاث أشهر، والثانية لأيام، والثالثة لخمسة أشهر، أما "قمر" فعاشت لأحدى عشر شهرًا وأسبوع، كنت أُدفئ لها الماء بالشتاء واحرص أن يصل إلى حوضها ضوء الشمس، كانت بصحة جيدة وكنت أتطلع لأن أحتفل بذكرى اقتنائها بعد أن تتم عام، إنها سمكة وحيدة وحادة الطباع، لا تألف مخالطة أسماك آخرى من جنسها ولا أغلب ألأسماك الأخرى، وهذا الجانب أشتركُ معها فيه.
وأنا أتأمل حوضها بعد أن غادرته، لاحظت فُقاعات تطفو على سطح الماء وهذا يحدث من فترة لفترة، لكن هذه الفُقاعات أكثر بكثير من المعتاد، فتقصيت عن سبب حدوث ذلك لأول مرة عبر محرك البحث، وبدا لي أن "قمر" كان يفعل ما يفعله الذكور عادةً وهو عمل عُش من فُقاعات الهواء بقُطر مُحدد، وفي أصل العملية بعد انتهاء الذكر من بناء العُش يتم إنزال انثى مكتظة بالبيض في الحوض، فيلتف الذكر حول الأنثى ويعتصرها لإنزال البيض ويقوم بتلقيحه في نفس الوقت، وبعد إخراج الأنثى لكي لا تلتهم البيض، يقوم الذكر بجمع البيض المتساقط ووضعه في العُش ورعايته.
لحظه صمت .. هل يُعقل أن "قمر" أقدم على الانتحار جرّاء الشعور بالوحدة!!
وأنا الذي كنت أعتقده ينأى بنفسه نهائيًا عن المشاركة والاهتمام بشيء آخر غير وحدته، هذا الاعتقاد تحديدًا هو من جعلني أهتم بهذه الفصيلة من الأسماك وأرى في حياتها ملامح للسلوك الذي انتهجه بحياتي.
وبعد البحث غالبًا ما تظهر الحقيقة، وتسطع مثل شمس، فتتكون لدينا الحكمة عن تجربة وخبرة.
حرفيًا أثّرت بي الحياة السرية لتلك السمكة، ونبهتني عن أفكار وقناعات سبق وأن ألِفتُها عن الوحدة، مثلًا كفقدان الرغبة في الانخراط بعلاقة تؤول إلى حُب ثانيًة، تلك القناعة بالذات كانت قرار اتخذته في غياب جزء من قلبي فات أوان استعادته، وانغلقت بنية ألا يقفز قلبي ثانيًة خارج صدري، أنا أعرف كيف يتحول كل شيء من حقيقي إلى لا شيء، وأتذكر الكآبة التي دفعتني للانغلاق داخل حياة مُحدده، كحوض كبير يشبه حوض "قمر"، أُربّي فيه مشاعري بعيدًا عن أيدي العابثين، وأحمل في البال نسخة عن الوجه الآخر لكل شيء، وانتبه لنفسي.
وبهذا الصباح الحزين فلت مني انتباهي، وحَضَرتْ قصة تلك السمكة الصغيرة كنوع من الأدلة التي تصطدم بها فيبدأ شعورك المتخثر بالسيلان.
إن البحث عن دليل دامغ، لا يَأتي بـ«التحليل» إنّما بـ«الخبرة»؛ لأن هذه الخبرة أكثر أنواع المراجع دقة، وعند كل منا خبرة، لا تنبع من عقله ولا من قلبه، إنما من صندوق بأعمق نقطة في الروح لا تنقصه حكمة يُدلي بها عليه العقل ولا عاطفة يستشرف عليه بها القلب، فلطالما كان الشعور القادم من ذلك الصندوق حقيقي كالموت، كالحنين إلى الطفولة، كالتعب من الصمود، إن الشعور الذي يأتي من ذلك الصندوق غالبًا تكون به نجاتك 》.
ثم توقفت عن الكتابة، وسرحت بالحوض.
إن لعنة الإنسان في الحاضر، تكمن في العقبات التي لا تُحصى والمساحات المفتوحة من البؤس التي يحملها بداخله.
قرأت مرة كلمات عن مفهوم "مُحاصرة الحِصار" ويبدو أنني فهمتها الآن فهمًا تامًا، وهو كيف أنك تقوم بمحاصرة مساحات البؤس والاشكالات في حياتك حتى لا تتفاقم مع الوقت، بغض النظر عن إن كنت وقتها تملك حلولًا أم لا، وأعتقد أنني حاصرت مأساة سمكتي بالكتابة عنها وعن شعوري وقناعتي _أن في العزلة تكمن نجاتي_، تلك القناعة التي لطالما بدا رضاي عنها مُجبرًا، ها أنا أحاصرها الآن، بغض النظر عما سأفعله حيالها وما سأفعله أيضًا بحوض السمك الفارغ هل ساستبدله بحوض أعمق ومغلق من الأعلى، وهل سأجلب سمكةً غيرها أصلًا أم لا.
وبعد السابعة صباحًا بدقائق، التقطت السمكة وحفرتُ لها قبرًا صغيرًا بحوض نبتة "ببروميا" بإحدى زوايا حجرتي ودفنتها، ثم رتبت سريري والكومدينة التي بجانبه، وأعدت ملء المزهرية بالماء في حين صوت فيروز يصدح في أرجاء الشقة كلها "بيت صغير بكندا" .. وكوب قهوتي بيد وباليد الأخرى ألتقط ألواني الزيتية المتناثرة على أرضية مرسمي، وبعد كل ثلاث ثواني أرمق اللوحة التي رسمتها البارحة بنظرة إعجاب.
وضعت كوبي على رف النافذة المطلة على ممشى الحيّ، ثم خطرت لي فكرة أن اركض في الممشى، فشربت أخر رشفة من قهوتي، وعلى عجل ارتديت قميصًا قُطنيًا ووقفت بقرب باب الشقة أُدخِل قدمي بحذائي الرياضي، وأنا أُذكِّر نفسي بألا أنسى هاتفي وسماعة البلوتوث.
هكذا عاد إليّ صباحي ببساطة
أن لا تبحث عمن تُلقي عليه بالملامة، هذا قرار
أن تقرر المُضي وتمضي، هذا ترف ف
تويتر و استجرام: @ibrahim_kider