ضيف الله الحازمي
رأته والدته منهمكا في الكتابة ، منصرفا عن الحديث إليها بتلك الأحرف التي تحتل واجهة هاتفه الجوال ، فقالت له وكأنك عدت لغواياتك القديمة ، فانتبه وخجل منها وخبأ هاتفه وتوقف، فقالت لابأس من الكتابة ولكن بدون وجعها الذي يصاحبك كثيرا ، عليك أن تترفق بنفسك.
فقال لها أنت تشعرين بي دون بقية خلق الله فقالت أعرف مايشقيك ومايسعدك يابني ، فقل لي كيف سيكون حالك هذه المرة مع هذه الكلمات والأحرف التي تشقيك وتسعدك في ذات الوقت ، فقال أجدني كالعائد من المنفى ، أعود للكتابة كوطن ، فلايمكن الارتياح بعيدا عن الأوطان ، تلك الأوطان التي نأخذها معنا ياأمي في كل شيء ، في الصحو والحلم ، في الصعود والهبوط ، في ألحان البهجة ، وترانيم الأحزان.
نعود إليها بالافراح ولو في القيد ، نعود إليها بالطمأنينة ولو في جسد منهك معذب ، نعود إليها ولو تائبين من الحلم ، ولو تائبين من شبهة أن نكون كالعصافير المغردة ، أو الطيور المهاجرة نعود إليها ولو تائبين حتى من أن نكون على صواب أو خطأ أو أي شيء ، المهم أن نعود ، وأن نكون هنا نراقب النوارس ولو يوما في الأسبوع ، نذوق عذوق التمر ولو في مطلع رمضان ، نستقبل القبلة ولو في اللحد ، أتدرين ياأمي أنني الليلة عائد إلى الكتابة بلا ذاكرة وهذا هو الفرق عن الماضي ، لكم اعشق الأشياء بلا ذاكرة ياأمي ، تلك الذاكرة التي تقتحم مناماتنا العجلى فترهقها ، تلك الذاكرة التي تشل وتكبل كل حر من المشاعر في داخلنا ، ثم ذهب ببصره بعيدا وقال، ماأسوأ أن تملك ذاكرة حاضرة قوية.
حينما يكون الأمر كذلك ، تدخل نفق الألوان وتخرج بعمى ألوان ، تصنع الكثير من الأحلام وتفيق بأضغاث أحلام ، تصنع الكلام وتعجز أن تستر عُريّ المعنى ولو بكلمة واحدة ، لأن ذاكرتك الحادة تشوش على كل شيء فتصبحُ حينها مجرد جسد تتحرك فيه الدماء بفعل الجاذبية ربما أو الكهرباء أو القدر دون أن تكون لديك الرغبة في أي شيء من ذلك.
أما حين تكون بلاذاكرة فإنك تعيش كل يوم دون أن يعنيك الأمس أو الغد ، تعيش كل يوم كأول يوم وآخر يوم في التاريخ ، تعيش كل يوم وكأنك انت التاريخ ، تعيش كعابر بلا اسم ويحيطك عابرون بلا أسماء ، وتكتفي ويكتفي الجميع بتقدمة أسماء الإشارة كبديل للأسماء حال النداء أو الخصام أو السلام ، هذا هو الفرق ياأمي..
فقالت أجدك في ذات الجلباب الذي جلب الإرهاق لك كل هذه السنوات فقال إرهاق لذيذ لأنني في ذات الوطن الذي انتمي إليه وينتمي إِليّ ، ذلك الوطن الذي يعيرني الأجنحة التي بها أطير وأستمد منه القوة لأبقى حيا عبر كل الأزمنة ياأمي.