محمد الدباسي
لم أكن أرغب بالحديث هذه المرة عن فايروس كورونا فالأمر أصبح مملاً لذلك الوباء الذي لو طلبت جامعة السوربون الباريسية اليوم من أحد ما في هذا العالم بتقديم بحث عن الكورونا و مناقشته لنيل درجة الدكتوراه فبالتأكيد لن يصعب عليه ذلك فلا يكاد يخلو مجلس أو صالة انتظار أو ممر إلا و تٌذكر الكورونا فيه بل و تصدرت أخباره نشرات الأخبار حول العالم متفوقة بذلك على كل أخبار الحروب و المآسي و دوري أبطال أوروبا لكنني هنا أردت الحديث عنها من زاوية أخرى و هو كيف أن الكورونا جعلت البعض منا يتخلون عن ثوابت بكل بساطة كانوا يعتقدونها و يٌحاجِجٌون عليها في نقاشاتهم بغض النظر عن صحتها و دون تفكير و لا أدري هل غاب التفكير هناك أم أنه حضر الآن بعد غياب أخذتهم العزة فيه بالإثم .
في نقاشاتهم السابقة عندما كان يتحدث علماء الشريعة عن قضية درء المفاسد كانوا يقولون : لا تستبقوا الأحداث و لا تحكموا بسوء نياتنا فليس شرطاً أن يحضر السوء فلربما خيراً حرمتمونا منه و باب أغلقتموه كان النور يشع من خلفه .. و ها هم اليوم يدرئون المفاسد على المصالح و يطالبون بغلق الأبواب فلا خروج لمصلحة و لا لعمل و لا لإحضار طعام فالمفسدة أكبر من موعد هام أو من أوراق ينبغي علينا إنهاؤها أو طعام لذيذ نريد احضاره لنستمتع به أو حتى لزيارة قريب نخشى عتابه .
أما حينما كان علماء الدين يطالبون بعدم التضييق على المرأة حول العالم و عدم حرمانها من حريتها في تغطيتها لوجهها كانوا يستهزئون و يقولون بأن ذلك رجعية و يضر بجمالها و من تغطي وجهها فإنها تخفي ملامح سيئة أو أن ذلك مضر بالأمن أو التواصل و أن ذلك لا يليق بميدان العمل و ها هم الآن يطالبون بتغطية الوجه بالكمامات و يرون من يرفض ارتدائها بأنه غير مثقف و غير حضاري و أن ذلك لا يؤثر جمالياً و لا أمنياً بل إن شاهدوا العاملين و العاملات في ميادين العمل قاموا بلبسه فإن ذلك يدل على أنهم ملتزمون بآداب احترام العمل .
و عندما كان يتحدث فقيه شرعي عن تحريم أمر ما و يذكر دليلاً حول ذلك من الكتاب أو السنة كانوا يجادلون و يقولون بأن المسألة خلافية و هم أجهل بأبجديات الخلاف الشرعي و الآن و في مسائل الكورونا يرون بالإجماع فيها و لا مجال هنا للطعن في تلك الأدلة الطبية القائلة بذلك فجميع رواتها ثقات مشهود لهم في علم الجرح و التشريح .
أما تلك السفينة التي سخروا منها و من دعاة حذروا كثيراً من غرقها و أن خرق جزء منها قد يهلك مجتمعاً بأكمله ها هم اليوم ينادون بأن تقصير فرد منا في التعامل مع الكورونا قد يحطم السفينة و نهلك و لذلك لم يتركوا فرصة لمن يقول : لا أريد الالتزام بسبل الوقاية و عليك بنفسك أو إذا لم يعجبك فاشرب من البحر .. فذلك البحر كما يقولون هم الآن سنشرب منه جميعاً حين تغرق بنا تلك السفينة التي نحن على متنها لو استجبنا له و انشغلنا بأنفسنا عن توعية المجتمع .
إن كل شيء فعلناه من أجل الوقاية من كورونا هو أمر طبيعي و صحي طالما أننا نريد أن ننجو أفراداً و جماعات من ذلك الوباء لكن لماذا لم نعتبره طبيعياً و صحياً حينها عندما كان الشرع و علماء الشريعة يطالبون بذلك من أجل النجاة باتباع أوامر الله.
محمد الدباسي
كاتب و مؤلف
رئيس التطوير في اتحاد الكتاب و المثقفين العرب
maldubasi@gmail.com