تعد اللغة النوبية، التي يتحدث بها سكان منطقة وادي النيل في جنوب مصر وشمال السودان، البالغ عددهم نحو 11 مليون نسمة، واحدة من أعرق اللغات الحامية المنتشرة في أفريقيا والسودان، فقد ظهرت في القرن الثالث قبل الميلاد، لكنها لم تكن أول لغة محلية تستخدم في هذه المنطقة، فقد سبقتها اللغة الفرعونية، ثم اللغة المروية التي حلت محل الفرعونية بعد انقطاع صلة سكان الوادي بمصر، وكانت تكتب بطريقتين، إحداهما عن طريق الصور (الهيروغليفية)، والثانية بواسطة الحروف (الديموطيقية)، وعددها 23 حرفاً منها 4 معتلة، و19 ساكنة.
وبحسب باحثين في تاريخ اللغة النوبية، فإن النوبية وفدت إلى منطقة وادي النيل بواسطة قبائل قدمت من شمال غربي أفريقيا عبر أقليم كردفان الواقع في غرب السودان، خلال فترة سقوط مملكة مروي، لتحل محل اللغة المروية التي لم يستطع أحد حتى الآن فك رموزها.
لكن في بدايتها كانت النوبية لغة تحدث فقط، ومع دخول المسيحية في القرن السادس الميلادي، وبروز الحاجة لترجمة نصوص الإنجيل، قام النوبيون باستخدام الحروف القبطية ذات الأصل اليوناني، لتدوين لغتهم النوبية بعد إضافة ثلاثة أحرف إليها، ليصبح عدد أحرفها 34 حرفاً. بالتالي أصبحت لغة تحدث وكتابة، وأداة للتواصل المعرفي بين الأجيال، فضلاً عن إسهامها في ترسية قواعد الحضارة والثقافة في هذه المنطقة من أدب وشعر وفن وغناء وقصص وروايات، وغيرها.
أوشكرين ونوبين
يوضح الباحث السوداني في اللغة النوبية مكي علي إدريس، أن الكيفية التي برزت بها اللغة النوبية ما زالت غامضة، بحيث لم يعلم أحد كيف ومتى ظهرت هذه اللغة، لأن الفجوة الزمنية ما بين آخر الوثائق المكتوبة بالمروية، وأقدم الوثائق النوبية المكتوبة، نحو أربعمائة عام. لكنه يشير إلى أن هناك ثلاث ممالك نوبية مسيحية تأسست في شمال وأواسط السودان، استخدمت الخط الإغريقي (المعدل) لكتابة اللغة النوبية، في الشؤون الرسمية للدولة.
ويبين الباحث أن الكنائس النوبية لعبت دوراً كبيراً في إبطال الكتابة بالخط المروي. ويقول في ذلك المؤرخ الكندي بروس تريجر، “بعد انهيار مملكة مروي على يد الأكسوميين، بقيادة عيزانا الحبشي، حلت اللغة النوبية محل اللغة المروية تدريجاً، وسادت في وسط السودان وشماله، أما اللغة المروية التي شغلت وادي النيل الأوسط، فقد فعلت ذلك على ما يبدو مدة معتبرة من الزمن. أما في أراضي السهول إلى الغرب فقد كانت هناك كتلة كبيرة من المتحدثين باللغة النوبية. وفي وقت مبكر من العصر المسيحي، شق بعض المتحدثين بأحد فروع اللغة النوبية طريقهم شمالاً، إلى أرض النوبة الحديثة، بينما شق بعضهم طريقه شرقاً إلى منطقة الخرطوم، وحلت النوبية محل المروية، وبعد غزوات العرب اختفت اللغة النوبية من المنطقة الأخيرة، وانتشرت العربية داخل أراضي السهول”.
ويرجح تريجر أن “انقسام اللغة النوبية في شمال السودان إلى لهجتين، يرجع إلى هجرة جماعة تتحدث اللغة النوبية من شمال كردفان إلى ضفاف النيل الشمالية في قرون سابقة، فانقسمت اللغة النوبية النيلية في شمال السودان إلى لهجتين الأولى تسمى “اوْشْكِرينْ”، ويتحدث بها سكان إقليم دُنْقُلا في شمال السودان، وسكان منطقة الكُنُوز في جنوب مصر، واللهجة الثانية هي “نوبين”، ويتحدث بها سكان مناطق المَحَسْ والسكوت وإقليم وادي حلفا (فاديجا). وهناك فروق ضئيلة بين اللهجتين في تصريفاتهما اللغوية، وبعض مفرداتهما وتعابيرهما وإن اتفقتا في أساسهما القاعدي”.
قواعد وخصوصية
لكن إدريس يزعم بأن انقسام اللغة النوبية إلى لهجتين، لم يكن بسبب الهجرات التي أشار إليها بروس تيرجر، قائلاً إن “العصبيات التي سكنت في حوض النيل الشمالي، كانت تتحدث بلغات مختلفة. فقد تتحدث مجموعات المحس والسكوت والحلفاويين باللغة النوبية (نوبين)، بينما تتحدث الدناقلة والكنوز باللغة النوبية (أوشكرين)، حتى يومنا هذا. وإن أهم ما يميز اللغة النوبية بقسميها (نوبين، وأوشكرين)، انتشارها في الرقعة الجغرافية ذاتها، التي سادت فيها حضارات حوض النيل في شمال السودان وجنوب مصر، وقدرتها على التعبير عن تفاصيل الحياة والتراث والقيم، كلغة مكتوبة، بعد اكتشاف قواعدها وخصوصياتها في تفاصيل بناء الأسماء وصياغة الأفعال”.
وفي عام 1909، نشر الإنجليزي واليس بدج، صوراً لمخطوطات نوبية في حالة جيدة في المتحف البريطاني، وفي عام 1913 وُضع الأساس الأول الثابت لدراسات اللغة النوبية على يد الإنجليزي قريفث، بعد اكتمال الحفريات في قصر إبريم على يد مارتن بلومي، والأميركي جيرالد براون