زهور عسيري شابة سعودية.. عاشت آلام اللاجئين بكل تفاصيلها الموجعة، رأت الموت وهو يطوق أعناق الهاربين من الظلم إلى ظلام الليل الدامس في مراكب صغيرة تتقاذفها الأمواج وسماسرة الفجيعة.. زهور سمعت ذات ليل نحيب مسن يتضور جوعاً، باحثاً عن كسرة خبز يسد بها رمق ثلاثة أيام من الحرمان، ولم يغب عن عينيها أم كانت تنوح وترمق عيون العابرين عل وعسى أن تلمح صغيرها الذي فقدته في الزحام.. التقيناها وحكت لنا قصتها في الحوار التالي:
• كيف تعرف الدكتورة زهور عسيري نفسها؟
أعرف نفسي بأني طالبة علم ومعرفة.
• مجال دراستك الحالي؟
أنا طبيبة عامة.
• لماذا اخترتِ الدراسة في هنغاريا؟
حقيقة لم أختر هنغاريا، بل تم اختيارها لي.
• متى بدأت لديك فكرة العمل التطوعي؟
مساعدة الغير جزء من شخصيتي منذ الصغر، وقد اشتركت مع مجموعات تطوعية كثيرة بالسعودية وخارجها، وكان عملنا غالباً لمساعدة المحتاجين أو المرضى، لكن العمل مع اللاجئين أمر مختلف، ولم يكن بدافع حبي لمساعدة الآخرين فقط، بل رغبة في نصرة المظلومين، وكلي إيمان أن ما قمت به ليس تطوعاً، بل هو حق وواجب مفروض عليّ تجاههم.
• هل هناك صعوبات واجهتك؟
بالتأكيد، خاصة في بداية الأزمة، كان الوضع هناك غير مفهوم لنا كمتطوعين، ولم نكن نعلم ما هي حدود عملنا النظامية، لا أحد كان بمقدوره أن يقول لنا هذا ممنوع وهذا مسموح، والأمر يعود على أنه حتى الدول نفسها لم تحسم أمرها في البداية، ولم تكن قادرة على تحديد موقفها من اللاجئين، وكيف يجب أن تتعامل مع الأزمة، لذلك حصلت لي مواقف كثيرة ووقعت بمشاكل مع أفراد الجيش، لكن الحمد لله خرجت منها من دون أذى.
• زرتِ أكثر من بلد في أعمال تطوعية على حد علمي.. أليس كذلك؟
على مدى سنة ونصف تقريباً كنت أتنقل بين دولة وأخرى، وفيما بين حدود ومحطات ومخيمات، وكنت أبحث عن أكثر الأماكن بها أزمة واحتياج للمتطوعين وأذهب إليها.
* كيف كنتِ توافقين بين الدراسة والعمل التطوعي.. لاسيما أنه كان يتطلب منك السفر؟
كان التوفيق صعباً جداً، لكن بالتنسيق والتعاون مع المعلمين استطعت أن أعطي الدراسة حقها. والأساتذة بجامعتي كانوا من الداعمين لي معنوياً، وفي ها المجال كانوا دائماً يقولون لي: “اذهبي مع اللاجئين فهم بحاجة إليك أكثر”، وأضيف أنه كان هناك أقسام بالمستشفى جمعت التبرعات وقدمتها إلي، ولم يكن هناك أي دكتور لم يدعمني ويشجعني ويعبر عن فخره بما أقوم به.
* ما هي أبرز المواقف العالقة في ذاكرتك؟
كثيرة جداً هي المواقف التي حدثت مع اللاجئين إلى أوربا، وهناك مواقف تفوق الوصف ويصعب وتصويرها ونقلها للآخرين، مررت بمواقف الحديث عنها لغير المتطوع الذي عاش تفاصيل الأزمة يبدو مستغرباً، وربما لا يصدق البعض تلك المواقف لشدة غرابتها وألمها، بل الإنسان المعايش لتلك الظروف يتساءل أحياناً هل ما أشاهده فعلاً حقيقة! وتعددت المواقف بتعدد الأماكن التي ذهبت إليها، ولكل مكان ظروفه الخاصة، ومواقف لا تنسى، وسوف أحكي لكم بعضها :
في بودابست “محطة الكالتي” كان الألم والجوع :ما بين الساعة 3-4 فجراً، الجو بارد جداً، وكنت في لحظة هدوء جالسة عند الصناديق التي نجمع بها الخبز والفاكهة والماء، التبرعات كانت تصلنا قليلة وكل يوم يأتي بعض التبرعات وتنتهي قبل نهاية اليوم، وفي ساعات الفجر أصبحت الصناديق فارغة، في انتظار صباح اليوم التالي لتصل دفعة جديدة من التبرعات، وإذا بصوت خافت: “عمو فيه عندكم أكل” قلت له: “لا والله عمو خلص كل شيء، يمكن الصباح يجي فطور، تعال الصباح “فكان الرد: “عمو بدي لو خبزه تلات أيام مو ماكل شي”، فأخذ أحد الصناديق التي بها فتات خبز وجمعها ولعق أصابعه، كان فقط يريد الخبز، وأتى يوم عجزت فيه أن أقدم كسرة خبز لإنسان يتضور من الجوع.
• ماذا عن سلوفينيا؟
سلوفينيا “محطة دوبوفا” الطفل بلا أمه :
تأتي القطارات من كرواتيا، ويتم تكديس القطار باللاجئين دون مراعاة الطاقة الاستيعابية للقطار، والذي يحدث هو إركاب 1000 لاجئ مع عدم مراعاة العوائل، فإذا بلغ عدد الركاب 1000 راكب يتم إغلاق القطار، ولا يهمهم إن تم فصل الأشخاص عن عوائلهم، ويتم التعامل معهم كأنهم بضائع شحن من دون الالتفات للجوانب الإنسانية، ولما تصل القطارات لسلوفينيا تتم عملية البحث عن العوائل الضائعة والمنفصلة، صراخ وبكاء وعويل وقلق يضاف على تعب اللجوء والهرب والتنقل عبر الحدود، وحدث حين كنت هناك أن أتى لاجئ مغربي بطفل عمره بالأسابيع، وقال لي إن الطفل ليس بطفله وحمله لمساعدة أهله، لكن أهله الآن في كرواتيا بعد أن تم الفصل بينه وبين أهله في القطار، سألته هل تعرف اسم عائلته؟ أجاب أنه لا يعرف غير أن أبوه ينادونه “أبو وائل”.
لم أستطع أخذ الطفل وطلبت من الجيش أن يقدم الدعم للمغربي وأن يسمح لنا بالبحث في المقطورات الأخرى، لعل وعسى أن يكون أهل الطفل في بعض المقطورات، تعاون معنا الجيش السلوفيني وبحثنا بكل المقطورات ولم نجد أحداً، فطلبت منهم إبقاء اللاجئ مع الطفل إلى أن يأتي القطار الآخر، وعادة ما يكون بين القطارات 3 ساعات، انتظرنا القطار الآخر، ولم يأت أحد، فتم نقل اللاجئ مع الطفل إلى مخيم، حتى يظل هناك بدل البقاء في المحطة، وإذا وصلت العائلة يتم إحضاره، لأن الجيش رفض تسجيل الطفل بدون أهله، وبعد أربع قطارات وصلت الأم، فكان مشهد مأساة الأم منظراً لن أنساه ما حييت، ولما أصف لكم حالها لا أتمالك نفسي فالدمع بعيني وصوتها في أذني، حينما وصلت الأم وبمجرد ما فتح باب المقطورة، نزلت الأم وبدأت بضرب رأسها بالأرض وتصرخ” ابني جيبوا لي ابني” حجابها أصبح على كتفها وتشد في شعرها وتصرخ، وتضرب أبواب المقطورات برأسها الباب تلو الباب، وأفراد الجيش في حاله صدمة، لا أحد استطاع الحراك، منظرها كان يبكي الصخر، ذهبت إليها مع متطوع جزائري وحاولنا تهدئتها حتى أخبرناها بأمر المغربي والطفل حينها سكنت وتوقفت عن الصراخ، ثم أخذنا أحد الضباط من الجيش بسيارته الخاصة إلى المخيم، وأحضر اللاجئ المغربي والطفل مع موظف الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ” UNHCR” ، ولكم أن تتخيلوا موقف الأم وحالتها لما شاهدت ابنها .
• واصلي حديثك.. وماذا حدث في المجر واليونان؟
مازال عالقاً في ذاكرتي أنه في “محطة الكالتي” ببودابست حضر رجل من أهل البلاد مريض بسرطان المعدة، وأخبرنا أنه يأس من العلاج، فكانت لديه رغبة في تقديم المساعدة للاجئين، فطلب منا مساعدتنا لإيجاد لاجئة سورية لديها أطفال، وهو على استعداد أن يتزوجها ويكفل أطفالها حتى تأخذ الجنسية، ويوفر لهم بيتا صغيرا لا يملك غيره، وكان الموقف شديد الغرابة بالنسبة إلي، وبسبب زحمة العمل طلب منه الانتظار، وانتظرني حتى نهاية اليوم حتى رحيل آخر قطار، ثم جلست تحدث إليه وقلت له إنه لا يمكنني إقناع لاجئة بالبقاء في هنغاريا، الكل يرغب بالرحيل، فكانت ردة فعله البكاء، حزنت عليه كثيراً، وبقدر حزني عليه بقدر ما شعرت بسعادة داخلي من روعة عطاء البشر حينما يعود إلى بذرته الداخلية وإنسانيته .
أما في اليونان فهناك قصة “لم الشتات على حدود اليونان وتصوير لحظة اللقاء”:
فقد عرف عني رفقاء العمل التطوعي ماذا يعني لي جمع الأفراد التائهين بأهاليهم، وأن لم شمل العوائل يصنع يومي، وحصل أن فتاة عراقية لا تجاوز 17 عاماً ضاعت عن أهلها عندما نزحت أسرتها هرباً من داعش، وعاشت لمدة 4 أشهر بعيدة عن أهلها، وكان والدها المتقدم في السن يبحث عنها في كل يوم، ويزور المخيمات المخيم بعد المخيم بحثاً عنها، وبمساعدة المتطوعين استطعنا العثور على ابنته في مخيم “ادوميني” على الحدود اليونانية، لكن لحظة اللقاء بأهلها حان وقت عودتي لمدينتي، ورفقاء العمل التطوعي لعلمهم عن السعادة التي يسببها لم شمل العوائل قاموا بتخليد لقاء فتاة بأبيها عن طريق الفيديو، شاهدت كيف أن الأب لم يستطع الوقوف لما رأى ابنته، لحظة مؤثرة من لحظات لقاء المشتتين وعمل مؤثر من الأصدقاء الذين وثقوا اللحظة من أجل إدخال السعادة لقلبي.
• كيف هي أحوال اللاجئين اليوم بحسب قربك منهم؟
الأحوال مختلفة، فمن وصل لوجهته الأخيرة وأخذ أوراقه الرسمية بدأ بالاندماج وتعلم اللغة، وبعضهم بدأ بالعمل بالرغم من الألم النفسي الذي بداخلهم وحنينهم للوطن، أما من وصل الحدود بعد توقيع الاتفاقية مع تركيا فحالتهم سيئة جداً للأسف، فما زالوا عالقين في اليونان أو على حدود دول البلقان .
• على المستوى الشخصي من كان لهم الفضل في دعمك؟
هناك الكثير ممن قدم الدعم لي وأولهم أهلي، على الرغم من خوفهم الشديد وقلقهم، إلا أنهم كانوا دائماً يذكروني بنبل ما أقوم به، ولا يكتفوا بالدعم المعنوي بل يقدمون الدعم المادي أيضاً، كذلك أصدقائي الذين كنت أرجع إليهم بعد كل رحلة وأنا محبطة نفسياً وكلي غضب وقهر من الظلم الذي شاهدته، فكانوا خير الأصدقاء الذين أجد عندهم الاحتواء ويحاولون إسعادي، وكل شخص أرسل لي أو كتب لي كلمة دعم وتشجيع أنا ممتنة لهم جميعاً، والكثير الكثير من الأشخاص الذين لولا تبرعاتهم ما كان بالإمكان إكمال هذه الرحلة في العمل التطوعي مع اللاجئين.
• هناك بعض انتقادات وجهت لك في مواقع التواصل.. كيف تعاملتِ معها؟
يحق للناس أن تبدي رأيها في أي موضوع، ومثلما هناك ناس أعجبهم ما قمت به، هناك آخرون لم يعجبهم ذلك، لكل وجهة نظره والتي أحترمها، وأنا دائما أكرر أن ما يعتقده الآخرون في زهور لا علاقة لزهور به .
• الفرق بين الأعمال التطوعية لدينا ولديهم؟
ليس هناك فرق، التطوع في كل مكان في العالم يحكي لغة واحدة هي لغة العطاء. عملت مع متطوعين من كل الأجناس والأعراق والأديان، كلهم كانوا يعملون بنفس الروح ويملكون نفس القلب، قلب متطوع.
• ما هي أفضل دولة أوروبية تعاملت مع اللاجئين؟
سلوفينيا هي الأفضل من بين الجميع .
• هل صحيح أن بعض جمعيات التنصير وجدت أرضاً خصبة مثلما يشاع واستغلت ظروف اللاجئين؟
نعم، يوجد الكثير من جمعيات التنصير في استقبال اللاجئين .
• وهل هناك دول كانت تميز في المعاملة بين اللاجئين بناء على الدين والهوية؟
بالتأكيد نعم، فهناك دول من الأساس لم تقبل لاجئين إلا حسب الديانة والجنسية، حتى في المخيمات يتم فصل الجنسيات عن بعضها .
• نوع المعونات التي كانت تقدم لهم؟
اللاجئ خسر كل شيء، فمن الطبيعي أنه يحتاج جميع أنواع المعونات من أكل وملبس وتعليم وصحة، وكذلك معلومات صحيحة عن الأوضاع الحالية، والأهم منها يحتاج الأمل والأمان .
• على الصعيد الشخصي ما هي هواياتك؟
أحب رياضات الجري والغوص .
• لمن تقرئين؟
لا يوجد كاتب محدد ولكن كل فترة أقرأ موضوعا معينا، وأحرص دائماً على القراءة في مواضيع تختلف عن قناعاتي ومبادئي أحياناً، فإما أزداد قناعة بمواقفي، أو أحيانا أغير مواقفي .
• بعد إنهاء الدراسة أين ستكون وجهتك؟
أرض الله كلها وجهتي .
• كلمة أخيرة..
إلى جميع شباب العالم، لا تسمحوا بأن تتم برمجة عقولكم، وأن يتم استخدامكم، حصنوا فكركم، اقرأ غامر جرب افشل حتى تنجح، تمسك بإنسانيتك، كن سفيراً للحب والسلام، انشر فرحة وساعد المحتاج واصنع التغيير، كن دائماً المفتاح والمبادر للخير، وأينما يزرعك الله أثمر.