الكاتب : ضيف الله الحازمي
قَدَرُ بعض المجتمعات أن تكون كياناً محورياً يدور في فَلَكه الآخرون، تأثُّراً وإعجاباً وانتماءً، ذلك لأنّ تلك المجتمعات تُمثل قيمة رمزية لعناصر الهوية "اللغة والتاريخ والدين والثقافة والسمات الإنسانية" التي تُميز كياناً دون غيره، وتُخَلِّده قِيمة عُليا، ومَرْجعية كُبرى ،كما هو الحال مع مجتمعنا في هذا الوطن الأعظم، الذي يُشَكِّلُ امتداداً لثقافة أصيلة، وعُمْقاً لدين سماوي عظيم، وتاريخاً مضيئاً لكل ما هو أصيل نبيل، وهو مايعطي لهذا المجتمع قيمته الاستثنائية، التي لم تُكْتسب قَهْراً وطغياناً، بل تأثيراً وإحساناً.
إننا عندما نَتَمَعَّن في التاريخ كأرقام، دون الغَوص فيه كَتجْربة حضارية، فإننا نُجَرِّدُه من قيمته التي تُشَكّل الزمن وتُلَوِّنَه وتُعطيه نَكهته المميزة، ولهذا فإن المتأمل لتاريخِ تأسيس وانطلاق هذا الوطن العظيم المدون في 22 فبراير عام 1727 ميلادية، يجد أنّ هذا التاريخ يُشَكِّل بداية وحدة حقيقية لامتداد مكاني، يحمل في ذَاته وتفاصيله، تلك الهَوّية التي لا تخطئها العين، ولا يَجهلها العقل المنصف الذي يَعِي مالهذا الوطن من سِمات وتأثير على مليار مسلم وعربي.
إنّ هذا الوطن قديم قِدَمَ الأشياء النفيسة في هذا الكوكب، غير أنه يُولد مُجدداً في كل لحظة وعصر، عبر تاريخه المُتَجدّد في روح أبنائه، المُوغِل في التاريخ الإنساني والحضاري، بما يجعل الزمن فيه مُتصلا بعضه ببعض، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، الأمر الذي يعطيه صِفة البقاء الأبدي في كل العصور والحِقب.
إنّنا اليوم ونحن نَتَوَشّح اللحظات الجميلة بهذه المناسبة، فإننا نَفخر بكل رَاية تَألّقت في كل يد عِصامية أقامت للحق مقاماً، وأشْهَرَت مَلْحمة للعزّ مُنذ ذلك التاريخ البَهيّ المُبهر، عندما انطلق الركب عام ١١٣٩ هجرية مؤمنين بالله متوكلين عليه، لنقْطِف نحن ثمار تلك اللحظة اليوم، رخاءً ووحدةً وقوةً يَأمَن بها الأخ والصديق، ويَهَابها كلّ ظالم وعدو.
إنّنا ونحن نتقدم كل يوم نَسْتَشْعر تلك القِيم التي رسّخها أسلافنا، فَوَطّئَت بتوفيق الله لنا كل عسير، وذَلّلت لنا كل صَعب، بعد أن عاش إنسان هذه الأرض رَدْحَاً من الزمن يدفع فواتير المُعاناة بغير سبب، إلا تلك الحُرّية التي لم يُقايض بها أي شيء، فَعاش بها ومعها، زاده التمر، ورايته العزّ والفَخر، وإرادة الخير والسلام وسيلته في العيش والتعايش مع كل البشر في كل مكان.
إنّ هذا اليوم الذي تنظر فيه بلادنا لتلك الّلحظة الفَخْمة من الماضي بكل تقدير، فإنها في نفس الوقت تأخذ منها تلك الطَاقَة التي لاتَنْضَب، لتَتقدّم نحو آفَاق المستقبل بكل ثِقة الكبار الذين أثّثُوا المكان والزمان بكل إِرادة طَيّبة يَحُفُّها ويحرُسها إيمان كبير بقيمة هذا الوطن الجميل، الذي أضَاف للإنسانية في كل أوقاته، ذلك البُعد الأخلاقي، وتلك القِيَم التي ماذُكِرت في أي سَانحة، إلا والتَفَتت الأعناق والأرواح صَوْب هذا الوطن اعترافاً بفضل، والتماساً لِفضيلة.