-جديد المقالات .
—————
للكتابة : حصة بنت آحمد السماعيل.
من المعلومِ أن مجردَ اِدِّعاء شخص بأمر معين غير كافي لحصوله على ذلك الشيء؛ ولهذا وُجِدَت ضرورة امتلاك دليل وبينة تؤيد صحة ذلك الادعاء، فإن عجز المدعي (المُطالِب بأمرٍ ما) عن إقامة دليل على ذلك الحق المُطالَب به؛ عُدَّ مصدر الحق في عِداد المعدومِ حُكمًا، وبالتالي لا يمكن للقاضي أن يحكم للمدعي بما يطالب به. لذا إن عدم القدرة على إثبات المصدر المُنشِئ للحق، يؤدي لعدم الاعتراف بالحق أمام القضاء حتى وإن كان موجودًا حقيقةً وواقِعًا.
ويجدر التنويه إلى عدم إمكانية إثبات الحق بالذوات، لأنه مجرد فكرة معنوية! بل لا بد أن يُثبَت الحق بدليلٍ مستقلٍ ومتَّفقٍ عليه، هذا الدليل يُسمَّى بدليلِ الإثبات. وهذا الإثبات له محلٌّ أساسي وهو الواقعة القانونية، وهي تعتبر مصدر الحق الذي يعني الأسباب المنشِئة للحقِّ قانونًا، وهي لُبّ حديثنا في هذه المقالة..
قد تكون الواقعة القانونية واقعة مادية مثل العمل الضار أو النافع، وقد تكون تصرف قانوني مثل العقد.
ومن أبرز المبادئ المتعلقة بإثبات الواقعة القانونية: ” لا يقضي أحدٌ بنفسه لنفسه”. أي: لا يستطيع الإنسان أن يُكوِّن بذاته دليلًا لثبوت الحق، بمعنى أن إثبات الحق لابد أن ينتج عن دليل مستقل عن ذات الحق، ويندرج عن ذلك عدة مبادئ منها” أن الإنسان لا يصنع دليل لنفسه”.
ونتيجة لذلك، نجد أن مضمون مفهوم الواقعة محل الإثبات يشير إلى ضرورة تقديم الأدلة الكافية من قبل الطرف الذي يدعي وجود واقعة قانونية لدعم زعمه، إذ قد يكتسب الإنسان الحق دون أن يستطيع إثباته، فيتعين على الطرف المدعي تقديم الأدلة الملائمة لإثبات ادعاءاته. وإذا لم تكن هناك أدلة كافية؛ يُفترض أن الواقعة القانونية غير مثبتة.
يمكن القول بأن مبدأ الواقعة القانونية محل الإثبات، يعكس مبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية من نظام الإثبات السعودي “على المدعي أن يثبت ما يدعيه من حق..”، أي: أنه يقع عبء الإثبات وإقامة الدليل على من يدعي توفرها، ولهذا كما سبق لنا القول أن محل الإثبات هي الواقعة القانونية باعتبارها السبب المنشئ للحق أو المرتب لأثر قانوني.
ومثال ذلك في التصرفات قانونية: التسليم في عقد البيع، حيث يجب على الأطراف تقديم الأدلة على تنفيذ التزاماتهم.
والمتأمل في نص المادة الثانية من نظام الإثبات في الفقرة الثانية ” يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وجائزًا قبولها” يجد أنها أوجبت عدة شروط موضوعية يجب توفرها في الواقعة محل الإثبات وهي كما يلي:
1- أن تكون الواقعة محددة:
يُستنتج هذا الشرط من طبيعة الأشياء، فالإثبات ينبغي أن يرد على شيء محدد، ومن ثم لا يقبل إثبات واقعة غامضة أو غير محددة، مثل: أن يدعي شخص بِدَينٍ له في ذمة شخص آخر، دون أن يحدد ماهية الدين ومقداره. فإذا لم تكن الواقعة محددة بماهيَّتها ونوعها ومقدارها؛ فلا سبيل لإثباتها! والقاضي لا يستطيع تحديد علاقتها بالأثر القانوني المطلوب؛ باعتبار أن الأثر القانوني يرتبط بطبيعته برابطة قانونية محددة. والواقعة المراد إثباتها قد تكون إيجابية، كإثبات العقار أو الدين، وقد تكون سلبية، كنفي وجود شيء مثل الامتناع عن عمل معين، أو عدم التقصير في بذل عناية معينة.
2- أن تكون الواقعة ممكنة (عدم استحالتها):
لا يُقبل إثبات الواقعة غير الممكنة واقعًا، أو شرعًا، أو عقلًا، أو منطِقًا، أو حِسًّا؛ لأن ذلك يعد عبثًا، ولا يجوز قبولها أمام القضاء. وتعود الاستحالة إلى الواقعة ذاتها، كأن يدعي شخص بأنه ابنٌ لشخص أصغر منه سِنًّا. وقد تعود الاستحالة إلى عدم تحديد وصف الواقعة المراد إثباتها، كأن يدعي شخص بأنه وفَّى بجميع الالتزامات التي نشأت في ذمته، فلا يمكن قبول إثبات هذه الواقعة لإطلاقها.
3- أن تكون الواقعة متنازع فيها:
حتى نلجأ للإثبات؛ لا بد أن تكون هناك خصومة قائمة على تنازع بين الخصمين حول واقعة معينة، ومنظورة أمام القضاء. فإن كانت الواقعة غير متنازع فيها أو سلَّم المدعى عليه بكل طلبات المدعي، فلا حاجة للإثبات؛ لأنها ثبتت في حقِّ المُقِر وحده.
أما بالنسبة للشروط القانونية الواجب توفرها في الواقعة لكي تصلح أن تكونَ محل للإثبات، هي:
1- أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى:
بمعنى أن تكون الواقعة محل الإثبات متعلقة بالحق المدعى به، كإثبات البائع عقد البيع لمطالبة المشتري بالثمن. وتعد الواقعة قريبة ومتصلة؛ إذا كان شأن إثباتها إقناع القاضي بوجود مصدر الحق، وبالتالي وجود الحق ذاته. والضابط في هذا هو مدى اتصال الواقعة بالدعوى ووجود سبب مباشر بين المنازعة والأثر.
2- أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى:
إذا كان إثبات الواقعة يؤدي بطريقة حاسمة لإقناع القاضي بصحة الحق المدعى به؛ فإن هذه الواقعة تعد منتجة. ويكون ذلك واضحًا إذا كانت الواقعة هي مصدر الحق، وهذا الشرط مكمل لشرط أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى. كما يمكن أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى دون أن تكون منتجة فيها، مثل: أن يُطالب المؤجر المستأجر أُجرةً، فيقدم الأخير مخالصة بالأجرة عن الشهور السابقة، ويثبت فيها سداد مبلغ الإيجار بانتظام، هذه الواقعة رغم تعلقها بالدعوى إلا أنها غير منتجة في الإثبات! إذ أن دفع الأجور السابقة لا يعني بالضرورة قيام المستأجر بدفع الأجرة في مدة لاحقة.
3- أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانونًا:
عند تعارض مصلحة الخصوم العامة والخاصة؛ فإن المصلحة العامة تكون مقدمة متى ما توفرت الشروط الأخرى المطلوبة في الواقعة محل الإثبات. ومع ذلك لا يقبل الإثبات قانونًا في الواقعة المخالفة للنظام العام والآداب العامة، أو لتعارض الواقعة مع سبب من الأسباب التي تقتضيها الصياغة الفنية للإثبات. وعلى سبيل المثال لا يُقبل إثبات دين القمار والربا الفاحش وبيع المخدرات لأنها أمور مخالفة للنظام العام والآداب.
أخيرًا: إن توفرت هذه الشروط؛ أصبحت الواقعة القانونية صالحة لأن تكون محلًّا للإثبات، وبالتالي يكون من حق الخصمِ إثباتها، ولا يملك القاضي رفض إجابة الخصم إلى طلبه. وإن رفض عُدَّ حكمه الرافض مشوبًا بعيب يستوجب الطعن فيه.