منذ مدة بعيدة، اعتقدت أني من جمهور القراءة والطعام، ثم أيقنت غير ذلك، أن ما أنا مولعٌ به يختلف تمامًا، ألا وهي الكتابة والطهي.
لطالما نظرت إلى ما أكتبه بعين العادي البسيط والمرهف، لكن بعد أن تعرقلت في معلومة عميقة تندرج تحت الاستمتاع بالأشياء الصغيرة، الفلسفية أو الوهمية، وهو ما يسمى "بقبعة كورو الحمراء" وهي عبارة تشير إلى تقنية جمالية يُدخِل فيها الفنان عنصرًا أجنبيًا في عمله يخالف شكل وروح بقية العمل كي يستحوذ على انتباه المتذوق لأطول وقت ممكن، كما يظهر في اللوحة الفنية أعلاه، اشتُق الاسم من رسم جان باتيست كميل كورو حيث كان يضيف للمناظر الطبيعية التي يرسمها بقعة حمراء صغيرة زاهية، تمثل قبعة أو وشاحًا أو عباءة، لا تنتمي لأي شيء آخر في اللوحة، لتشعر بأهمية هذه البقعة، احجبها بإصبعك وانظر إلى اللوحة بدونها، ثم أزحه وانظر كيف تصبح اللوحة شيئا آخر بوجودها.
احببت الفلسفة اللغوية عند نيتشه، وأحب كون ديستوڤسكي يشاركني برج العقرب بسقوطة ونهوضة، كما أحببت موركامي من أجل تقديمه العبقري لشخصية "تورو واتانابي" في روايته الغابة النرويجية، كما أحب انتقاء كارلوس زافون لِعُقد شُخوص رواياته، وأجد في توماس وولف أفضل من كتب عن نفسه، وما يعجبني في ليو توليستوي أنه خليط رائع مكون ممن تأثر بهم كا بوشكين وارسطو وافلاطون ... لكن ماذا سيحب القارئ فيّ أنا ككاتب؟
أعادني هذا السؤال لِعِلَك قد مضغتُها، فأعدت النظر في كل الكتب التي قمت بنشرها، في عناوينها في مقدماتها وخواتيمها وحتى اهدائاتها، ثمة شعور يحثني للبحث عن قبعة حمراء لكورو في كل صفحة كتبتها.
ثم طاطأت رأسي أنظر لصدري واتمتم بسؤال، كيف تكوّن الكاتب فيّ؟
"لا يكتب إلا من يمتلئ, ولا يمتلئ إلا من ينصت"
كانت صراحتي مع نفسي هي اللبنة الأولى لأساس هذا الميل الأدبي، ولأساس كل شيء حقيقي بي.
لطالما تجاوزت أغلب ما كان محسوسًا واتكأت كثيرًا على خيالي الذي كان يجتهد في منطَقَة كل مُبهم، ولا يمكنني تحديد أول لحظة ثقة توطدت علاقتي فيها مع الخيال، فالسماء أقرب في الخيال من الأرض والطيران أسهل من السير، وأستطيع الجزم أنني قد مررت بقرب تلك السحب الكثيفة ذات صباح.
اعتمدت على الخيال في تعويض أشياء عدة، ثم مع مرور الوقت كان يكبر معي شعور أن أغلب ما أعرفه عن نفسي لا يعرفه عني أحد، ومرات كنت أشعر بالوحدة في خضم أفكاري، ثم بدأت أتقبل وحدتي.
لم أكبر في مجتمع أقاربي، لم أصرف الحب إلا على أشقائي، العديد من الأشخاص يصفونني باللبق البسيط الواضح عند اللقاء الأول، لكنني أعرف إبراهيم خضر أكثر من أي أحد يدّعي ذلك، إبراهيم لا ينجذب إلا للعقول، لا ينصت إلا للعقول لا يضاجع إلا العقول.
كما أنني لم أحضر ناقصًا ولا مرة
دائمًا ما أوجَد حيث أرغب أن أوجد، أي جزء مني يرفض النهوض معي من السرير لم أغادر حجرتي بدونه أبدًا.
ربتني حريتي ورغبتي وعقلي وخيالي أكثر من عائلتي، ربتني حواسي الخمس، ربتني الفنون، لم تكن طفولتي غير عادية، أصبحت كذلك عندما تعرضت للخوف ذات مرة، بعد أن ارتدى أحد أقاربي قناعًا بشعًا وقفز أمامي من ناحيه الظلام، أُصِبت بعدها بتأتأة في الكلام لعدة سنين، فأصبحت أصمت أكثر من المعتاد بالنسبة لطفل كان يريد أن يسأل عن كل شيء، وهناك لاحظت أن العالم لا يشبه تصوري عنه، تعلمت القسوة والرأفة تعلمت التجاهل والمواجهة تعلمت الانتقام والعفو ولكن بشكل غير مرتب لذلك تألمت كثيرًا.
أذكر أول جملة كتبتها أصف فيها نفسي: "أنا مسألة وقت".
لكنني لم أكن حزينًا حين كتبتها، بل كنت أعطي نفسي مساحة أكبر في هذا العالم وأولوية، مارست الأنانية لبعض الوقت ثم رحت أمنح المعرفة واللطف للكل حتى أصبحت أعرف عنهم الكثير من خلال ثرثرة أحزانهم، وهنا رحت أمتلئ شيئًا فشيئًا حتى انهمر مني هذا السيل الذي ترونه من الكلمات، مع ذلك أجلس أحيانًا لساعات أكتب حتى توجعني خاصرتي ولا أكتب كلمة تصف ما أشعر به فأترك الشعور يفكر، وهذا يبرر حبي للفواصل الكثيرة وبغضي للنقاط.
من التعريفات البلاغية المبهرة للكتابة، تعريف ذكره ابن رشيق في كتابه (العمدة) "البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى".
أنت ككاتب _مهما كان المجال الذي تكتب فيه_ ستُسهِم تلقائيًا في تفكيك عقد القارئ بالاسهاب في المعنى، حيث أنك ترسم له نهاية أخرى محتملة غير التي تبنّاها، وتحثة على الجرأة في الحياة.
صحيح أنك ستُشتم بمهارتك أحيانًا، صرخ أحدهم بوجهي ذات مرة بعد أن خالفته في قضية ما "كتبت كم كتاب وجاي تتفلسف علينا"، ولم أفعل شيء وقتها سوى أنني طرحت رأيي الخاص بكل حرية.
دائمًا سيقحمون مرجعيتك الثقافية في الحديث، يلجئون لذلك عندما تخذلهم لياقتهم الثقافية ويُفلسون من الحُجج، وكأنه لا يمكنك أنت أيضًا الوصول لمرجعيتهم وتشريحها وشتمهم بها. حرب سخيفة حتمًا ستُبذِّر فيها نفسك.
إن الكاتب _أو أي صانع محتوى آخر_ هو بالضروره معني بترتيب دواخل الناس، في الأخر كلٌّ سيبحث في كلماتك وافتراضاتك عن دافِع ودور يناسبة، وأنت تكتب _في أي شأن_ أنت حينها تجري عملية جراحية لشعور من يقرأ، تظل الموازنة لك، قد تنتزعه من تأنيب، وقد تزرع به ذنب، وكل ما ملكتَه من مهارات لغوية وأسلوب سردي وتوظيف خاص لأماكن الفواصل، سيصبح ذلك بالنسبة للقارئ وكأنك تمنحة وقت مستقطع، أو كأنك تربت على ظهر كفه بيدك الأخرى في خِضم مصافحة، أو كأنك تزيد أو تُخفِّض من حِدة صوتك وأنت في صدد تذكيرة بقيمة أو قاعدة جوهرية يغفل عنها، إن للكاتب لغة جسد تظهر في سردياته.
وعني أنا تحديدًا؛ كتبتُ كثيرًا، ولسنوات كثيرة، لي في الكتابة حياوات أكثر من قِط، تستهويني الكتابة عن لحظة الصمت بين ضحكتين، حكايتين أو دمعتين، وبدلًا عن وضع نقطة في نهاية كل نص أو قصة أكتبها، أقوم بتكرار أخر حرف تفاديًا وضع نقطة، فقط هكذا، لا أريد أن أحدد المعنى بنهاية، أريد أن يُطيل القارئ في البقاء بالنص لأطول وقت ممكن، والتفكير بالمسافة التي بين الخشبة والغريق أكثر من الاحتفال بالنجاة، وربما هذه هي قبعة كورو الحمراء الخاصة بي ي
التعليقات 1
1 ping
Mohammed Khalid Shaik
29/08/2021 في 7:42 م[3] رابط التعليق
Beautiful and and the Best Ever