حمدان حمد العسكر
استوقفتني أبيات للشاعر الدكتور فواز اللعبون في قصيدته (نبعان) وهي رسالة من ابن إلى والديه :
لو جئتُ أحمل فوق كفي مهجتي
وعلى يدي الأُخرى حمَلْتُ النيِّـرا
وذهبتُ خلف خُطاكما أحثو على
رأسـي تُرابَـهما لكنتُ مُقصِّـرا
فجرى على البال برًا وسماحةً وإحسانًا، وتراءى لي عبدالرحمن والبيتان يختلجان في صدري ويجتذباني، وهو يحمل في كفيه لوالديه ما يحمل.
عبدالرحمن لاعب طائرةٍ سابق في نادي الهلال والمنتخب السعودي، بل هو صانع اللعب الأمهر على مستوى الوطن على أيامه، رجلٌ لين العريكة، هادئ الطبع، كريم النفس، وهو كما يقول العامة للرجل رحب الصدر وواسعه "صدره شمالي"، ما يميزه ربما بل قطعًا تفانيه في خدمة والديه -رحمهما الله- ، وكأنه لم يكن لوالديّه أحدٌ سواه، كالرجل الناذر عمره للشيء ولَزِمه إيفاء نذره عن حبٍ ووفاء، قليل الخروج إلا في حاجتهما، منقطع عن السفر إلا نادرًا، لم يبرح البيت لسواه بل حين تزوج أقعده بره مع والديه فما مرّت على خاطره فكرة المغادرة، يتلذذ كثيرًا بإطعام والده من يده، فلا ينزلها حتى يشبعه، ثم إذا ما قصد والده متجره كان الأسبق إلى المقصد والمحل يهيئ له المكان وينشغل بالعمالة كي لا يضطر والده للمتابعة والانشغال بهم، فكان هو العضد والساعد، والعصا التي يتوكأ عليها الوالد الكبير .
أما عن والدته فحكايا بر بيضاء، وقصص إحسانٍ مديدة، تمرض والدته ذات أيام فيلاطفها لتأخذ حبات الدواء فتأبى، فيعاودها برفق ولين فتأبى ملقية تلك الحبيات عن سخط على الحائط، فيأبى أن يُبارحها ويعود بلطفه وحسن مسلكه حتى تتناول جرعة العلاج وهي راضية، فكانت لا تتناول الدواء إلا من يديه، تذهب يومًا للمستشفى فتحتاج للبقاء فيه مدة علاجية أطول فيدفع إلى الممرضات اللاتي عهُد إليهن رعايتها بخواتم الذهب لينقل بره عبرهن بماله، حرصًا منه على أن تنال في مرقدها بالمستشفى عناية تقر بها عينه، يساعده في بره ذلك زوجة صالحة من بيت (ال سيار) بيتُ العلمِ والزهدِ والتُقى ، عرف أهله بالبذل الخفي خاصة، أكتافهم في ليل الحاجة لا تكلّ من حمل أكياس المؤن لذوي الحاجة والضعف، فلا ضير إن اختارت بصلاحها ما اختاره زوجها لتبقى معه في بيت والديه، تشاطره بره وإحسانه وصلته، وإنها وإن كانت هذه ميزة فريدة في عبدالرحمن فلم تكن الصفة الوحيدة، فعلى ما عنده من بر الأبوين، فهو يجمع إلى ذلك بره بأخواته وجميل الصلة بهن، فمنذ أخذ الله وديعته وبلغا والداه أجلهما واسْتُرِدَّت الأمانة، قارب العهد بهن ، وقصَّر زمان الزيارة إلى الزيارة، فهو دائم الطواف عليهن، كثيرٌ الترداد عليهن والسؤال عن أحوالهن، وهو إلى هذا كثير الخير خفيه، يسعى في خدمتك ما استطاع .
ومزيدًا على كل هذا لذو عقلٍ رزين، لا يتحرك لسانه بأذى، بشوش القسمات، يتلقى أضيافه بطلاقة محيا، يجمع رفقاءه في مكتبه كل صباح، يتقاسم معهما أحاديث الأيام وذكرياته، يفتقده إن غاب مجلسٌ ألفه وموقع شغله، لما كان له رغم هدوئه من قدرة على استحثاث الكلمات، وانتقاء الأحاديث، فلا يكاد يميل مجلس إلى الممل وفيه (عبدالرحمن بن عبدالله الجار الله الحميد) ، نعم الرجل هو، ونعمت الأخلاق التي جُبل عليها وهُدي.
"ومن الرجال معالمٌ ومجاهل
ومن النجوم غوامضٌ ودراري
والناس مشتبهون في إيرادهم
وتفاضل الأقوام في الإصدار "