تقف حائرا متعجبا وأنت في خضم معترك الحياة اليومية من مبالغة بعض الأفراد عند حديثهم عن ماضيهم أو ماضي آبائهم أو أجدادهم حين يخفق عند أول أزمة تواجهه في حياته الحاضرة ويبدأ في الاستغراق في إنجازات وأمجاد الماضي .
كما ينتابك شعور بالاستغراب والاستهجان في نفس الوقت عندما يسرد لك سلوك بعض النساء حينما ينزعن إلى الظهور بمظهر الفتيات في اللباس والحركات ونغمة الصوت في محاولة منها التشبب أو إثبات أنّهن لم يتأثرن بالمرحلة العمرية الحالية التي تعيشها، أو يحاولن إنكارها، حيث تتجه إحداهن إلى ارتداء ملابس الفتيات الصغيرات، من حيث الموديلات ،والألوان، والأحذية العالية، والإكسسوارات المبهرجة، والعباءات المزركشة، وقد تكون أماً لشباب وشابات، أو جدة ولها أحفاد، وتقوم بتكوين صداقات مع فتيات صغيرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة .. بل وتكاد تصاب بالجنون في أحيان أخرى حينما يتحدث بعض الراشدين بأسلوب طفولي .
كل تلك الأشكال والصور المختلفة التي نعيشها واقعا ملموسا ومشاهدا في حياتنا من بعض البالغين أو الراشدين تكون مستفزة لمشاعرنا، لكننا غير مدركين أو واعين لماهيتها أو كنهها، فضلا عن معرفة أسبابها .
والتفسير النفسي لمثل هذه التصرفات والسلوكيات التي تصدر من كبار السن من الجنسين ما هي إلا عبارة عن حيلة نفسية دفاعية لا شعورية تسمى " النكوص " يتم استخدامها من قبل بعض الأفراد لتعود بهم إلى مرحلة سابقة من مراحل حياتهم وخاصة عندما تضطرب الأمور أمامهم وعندما يتعرضون لمشاكل ومسئوليات تؤثر على مسار حياتهم فيشعرون بأنها أكبر من استطاعتهم، وأنهم غير قادرين على ازاحتها أو تحييدها .
وأول ظهور لمفهوم الحيل الدفاعية كان في إطار نظرية التحليل النفسي والتي اتفق على أنها مجموعة من الاستراتيجيات النفسية التي يمارسها الفرد في مستوى اللاوعي ليتمكن من تخطي المشاعر السلبية في الحياة الواقعية ولتحسين صورته الذاتية.
ويعتقد علماء النفس أن النكوص استجابة شائعة للإحباط سواء عند الأطفال أو لدى الكبار وهو يزود الفرد الذي يلجأ إليها بمهرب أو وسيلة هروب إلى مرحلة سابقة من العمر كانت جميلة وتركت الأثر النفسي الإيجابي في الذات حيث كان يشعر الفرد فيها بالحب والحنان والأمن، وكان محل اهتمام ورعاية المحيطين به .
بينما يرى علماء الصحة النفسية أن الأصحاء الذين حسُن توافقهم كثيرا ما يلجأون إلى النكوص أيضا بغية التخفيف من القلق أو الشدائد التي يواجهونها وهو تعبير سيكولوجي للتنفيس من شدة ضغوط الحياة والصراع والإحباط داخل النفس لكي يحيدوا الموقف الضاغط ونتائجه السلبية ولو لحين .
وهذه الحيلة الدفاعية قد تحقق للفرد التخلص من القلق والتوتر الناتج من عدم حل هذه المشكلة، ولكنها تصبح ضارة وخطرة عندما تبعد الفرد عن واقعه ، وتحجب بصيرته وبصره عن رؤية عيوبه ومشاكله الحقيقية، ولا تعينه على مواجهة المشكلة بصورة واقعية .
وهكذا نصل لنتيجة مهمة وهي أن تلك التصرفات والسلوكيات المستفزة هي حيل نفسية، ليست كلها لفقع مراراتنا، أو لرفع الضغط والسكر لدينا ، لأن معظمها لها ارتباط وثيق باستراتيجات الدفاع عند هؤلاء الأفراد لمواجهة مواقف الحياة الضاغطة والإحباطات لإشباع حاجات نفسية مفقودة، أو وسيلة للهروب والتخلص من واقع مرير ومؤلم .